في لحظةٍ واحدة، «قامت القيامة» في مدينة بعلبك وجوارها. قبل ظهر أمس، جاء «البلاغ» من جيش الاحتلال بوجوب إخلاء بعلبك وعين بورضاي ودورس وإيعات وتل الأبيض، فكان المشهد الأقسى: سيارات الدفاع المدني تجوب الطرقات تدعو السكان إلى إخلاء بيوتهم فوراً بعد تعميم الناطق باسم جيش الاحتلال للخريطة «التوضيحية» لـ«الأماكن المستهدفة» التي تبلغ مساحتها نحو 45 كيلومتراً مربعاً، فيما عمد البعض إلى إطلاق النار في الهواء لتنبيه الناس إلى ترك الأحياء وإقفال المحال التجارية. خلال دقائق، امتلأت الطرقات بناس يركضون في اتجاهات متعاكسة. من يملك وسيلة نقلٍ هرع هارباً خارج «أسوار» بعلبك، فيما انتظر آخرون الصليب الأحمر والأجهزة الأمنية ومحافظة بعلبك ـــ الهرمل لتأمين وسيلة للخروج. لكن لم يكن ذلك سهلاً، فبعلبك ليست شارعاً يمكن إفراغه بتلك البساطة، إذ تحتضن المدينة وجوارها أكبر كثافة سكانية في محافظة بعلبك ـــ الهرمل تبلغ حوالى 150 ألف مقيم. وإذا كان الجزء اليسير من هؤلاء قد خرج تباعاً مع الاستهداف المتكرّر للمنطقة، إلا أنّ «التغريبة» استُكملت أمس مع خروج كثيرين ممّن كانوا حتى ظهر أمس صامدين.
رغم ذلك، لم يخرج الجميع، فبسبب الفسحة الزمنية الضئيلة التي منحها العدو قبل أن يشنّ حملته الانتقامية، بقي بعض الناس في بيوتهم «لأنهم لم يستطيعوا تأمين وسائل النقل قبل أن يفوت الأوان ويصبح الخروج على الطرقات خطراً»، بحسب أمين سر المحافظة جهاد حيدر. بقي هؤلاء تحت القصف، «بحماية الله وحده». أما من خرجوا فقد سلكوا مرغمين الدروب التي حدّدها جيش الاحتلال تحت «نظر» المُسيّرات. ولم تكد ساعة تمرّ على إنذار الإخلاء، حتى اشتعلت بعلبك وجوارها بالغارات. 30 غارة في أقل من ثلاث ساعات. أما الاستهدافات، فهي كما السابقة «معظمها بيوت سكنية ومحال تجارية منها مثلاً مؤسّسة لدواليب إلى جانب خزان للمازوت قرب مستشفى دار الأمل الجامعي». لا أهداف أخرى، يحسم محافظ بعلبك ـــ الهرمل بشير خضر، وحتى في الاعتداءات السابقة على المدينة والجوار، «كان ثلثا الضحايا من النساء والأطفال»، فيما «ما يدّعون أنها مخازن سلاح، مجرد بيوت للمدنيين».
«أيّ مكان يتوفّر فيه سقف يؤوينا»
بحسب الخرائط التي وزّعها العدو، شمل الإنذار كامل مدينة بعلبك وبلدات دورس وإيعات ونحلة ومقنة وعين بورضاي. ولأنه لم يعد ثمة مكان آمن، فضّل الناس الخروج. مع ذلك، لم تكن هناك وجهة معلومة، فالمهم بالنسبة إليهم في تلك اللحظة النفاذ من الجحيم القادم. ولذلك، عندما تسأل العابرين، ستكتشف بأن الجواب واحد: « أي مكان يكون آمناً ويتوفّر فيه سقف يؤوينا»، تقول سبعينية احتضنت حفيدها مع سبعة آخرين من عائلتها كانوا يستقلون سيارة متهالكة. ومثلهم فعل كثيرون توجّهوا بالآلاف إما إلى البقاع الشمالي، وتحديداً نحو عرسال أو إلى زحلة ومحيطها، وكانت لافتة حركة المرور على طريق إيعات - دير الأحمر التي شهدت زحمة خانقة بسبب الأعداد المتجهة نحو قرى دير الأحمر وبشوات والقدام وبرقا والزرازير وعيناتا ومنها باتجاه الأرز وبشرّي وإهدن وزغرتا ومن ثم طرابلس وعكار. ولأن الكثير من العائلات حطّت الرحال في بلدات دير الأحمر، تداعت البلديات هناك إلى اجتماع فوري وطارئ في مبنى الاتّحاد «من أجل السعي إلى تأمين أدنى المقوّمات المطلوبة للنازحين الجدد في ظلّ اكتظاظ مراكز الإيواء الستة المقامة في نطاق الاتحاد وفي المنازل أيضاً»، يقول جان الفخري، رئيس الاتحاد لـ«الأخبار». وبسبب التدفّق غير المحسوب من النازحين إلى نطاق الاتحاد، حذّر الفخري من أن «الوضع خرج عن السيطرة والآلاف لا يزالون في الشوارع وساحات البلدة»، مشيراً إلى «أننا كنا قد رفعنا الصوت سابقاً من أن مراكز الإيواء ضمن قرى الاتحاد وصلت إلى حدها الأقصى بعدد فاق الـ2500 نازح، إضافة إلى 11500 نازح في المنازل». لا يملك الفخري رقماً موحّداً عن عدد العائلات التي وصلت إلى منطقة «الدير»، إلا أنه ناشد «الحكومة والأجهزة الأمنية والصليب الأحمر اللبناني والدفاع المدني التدخل السريع والفوري لمساعدتنا لنوفّر أماكن حتى لا يبقى أهلنا في الشوارع، لأن القدرات لدينا معدومة. كنا نراهن على شاحنة مساعدات وصلت اليوم (أمس) قبل أن نفاجأ بما حصل». وحذّر: «إن لم يتحرك المعنيون قد تغرق السفينة بنا جميعاً»، علماً أن مئات العائلات باتت ليلتها في السيارات على الطرقات أو تحت الأشجار، في ظل برد قارس، بانتظار ما سيحمله اليوم التالي.
الامتلاء الذي تعاني منه بلدات دير الأحمر ينطبق على طرابلس وجوارها، إذ أعلن محافظ الشمال القاضي رمزي نهرا، عقب اجتماع طارئ للجنة إدارة الأزمات والكوارث في الشمال، أن «مراكز النازحين في طرابلس وسائر الأقضية الشمالية لم تعد قادرة على استيعاب أي نازح في المراكز المعتمدة إلا في حال سمحت وزارة التربية والتعليم العالي بفتح مراكز جديدة وتجهيزها بالحاجات والمستلزمات الضرورية للنازحين»، متمنياً «تحويل النازحين الجدد الى محافظات أخرى».
على الطرف الآخر، شهدت بلدة عرسال هي الأخرى حركة نزوح لافتة، ولم تتمكن اللجان الموكلة بمتابعة أمور النازحين من إحصاء الأعداد لكثافة الوافدين والعمل على تأمين مراكز إيواء لهم. وهؤلاء سيضافون إلى تجمعات هائلة من النازحين السوريين وإلى «سبعة مراكز إيواء في البلدة تؤوي 600 عائلة نازحة، في حين توزّعت 2400 عائلة على بيوت، بعضها قُدّم مجاناً والبعض الآخر مستأجر»، يقول عضو لجنة الطوارئ في عرسال محمد نوح. وأوضح أن العائلات الجديدة التي وصلت أمس «أًسكنت في حضانة تابعة لمركز الشؤون الاجتماعية والبلدية، تضمّ 40 غرفة، وُضع في كل منها 3 إلى 4 عائلات». أما الأعداد الكبيرة من النازحين الذين ظلوا يتوافدون حتى ساعات متأخرة من ليل أمس، «فمن المرجّح توزيعهم على غرف ثانوية عرسال الرسمية التي أُنجزت أخيراً حتى لا يبقى نازح من دون مأوى».
بين 35 و50 ألفاً غادروا بعلبك والجوار
على مرّ الأسابيع الماضية، كانت مدينة بعلبك وجوارها يتعرضان للقصف اليومي، لكن رغم ذلك «بقي هناك الكثير من العائلات الصامدة والتي قدّرناها بحوالى 17 ألف عائلة في كل بلدات الاتحاد من بعلبك إلى يونين ودورس ومقنة ونحلة وإيعات ومجدلون وحوش تل صفية وعين بورضاي، وكنا نطالب الجهات الدولية والحكومة اللبنانية بتوفير مساعدات غذائية لها»، يقول رئيس اتحاد بلديات بعلبك، شفيق شحاده. وقبل أيام فقط، عاد ما يقرب من 3 آلاف عائلة «ليرتفع العدد إلى 20 ألفاً، أي ما يعادل 60 إلى 80 ألف مقيم». لكن، أمس، وبسبب الإنذار «غادر بحسب تقديراتنا حوالى 90% من الصامدين أي نحو 12 ألف عائلة من البلدات التي شملها الإنذار (ما بين 35 و50 ألفاً).
مجازر واستهدافات خارج مناطق الإنذار
واصل العدو الإسرائيلي ارتكاب المجازر بحق المدنيين الذين اعتقدوا بأن عدم توجيه إنذارات إلى قراهم يجعلهم آمنين. فقد نفّذ الطيران الحربي الإسرائيلي ليل أمس غارات على منازل في بلدات لم يرد ذكرها في خريطة الاستهداف، وهي بدنايل وبيت صليبي وسحمر، مرتكباً ثلاث مجازر في القاطنين فيها، ذهب ضحيتها 31 شخصاً. فقد استشهد 10 أشخاص وجرح 15 شخصاً في استهداف لمنزل في سحمر، واستشهد 10 بينهم 4 أطفال و4 نساء في بدنايل، في حين أسفر الاستهداف في بلدة بيت صليبي – شمسطار عن استشهاد 14 شخصاً و6 جرحى، في غارة استهدفت منزلاً من طبقتين يضم ثلاثة أشقاء مع عائلاتهم.