يشهد «التيّار الصدري» انقساماً حادّاً بين جناحَين داخله، على خلفيّة التراجع الكبير في أدائه وتأثيره على الساحة السياسية، نتيجة ما يَعتبره «عسكريّو التيار» أخطاء اقترفها زعيمه، مقتدى الصدر، تبدأ بالانسحاب من العملية السياسية، ولا تنتهي بمحاولة فصل قسرية للعراق عن إيران تَبيّن أنه ليست لبغداد أيّ مصلحة فيها. وتعمّقت الأزمة «الصدرية» بفعل الأداء «المقبول» لحكومة محمد شياع السوداني، مقارنةً بما كان يمكن أن تذهب إليه البلاد لو لم يتمّ تشكيلها، وذلك في ظلّ تقاطع أميركي - إيراني يوحي صموده حتى الآن بأنه أكثرُ من ظرْفي، ومندرج في سياق تجزئة الملفّات، ما دام التوصّل إلى صفقة شاملة تتضمّن الملفّ النووي غير ممكن حالياً
التغريدة الأخيرة لـ«وزير القائد»، الناطق باسم زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، والتي تبرّأ فيها من جماعة «أصحاب القضية» بعدما زعمت الأخير مهدويّته، قُرئت في العراق على أنها بداية محاولة لرصّ صفوف التيّار وإعادة تنشيطه، إثر النكسات التي مُني بها العام الماضي ولم يستفق منها حتى الآن، وذلك استعداداً لاستحقاقات قادمة أهمّها، أو أقربها، استحقاق انتخابات المجالس المحلّية المقرَّرة في كانون الأول المقبل. لكنّ واقع التيّار الحالي قد يعقّد إعادة النهوض تلك، في ضوء الانقسامات بين جناحَين رئيسَين، لكلّ منهما فلسفته، فيما يلتقيان عند اعتبار أن زعيم «الصدري» اقترف خطأ جسيماً بالخروج من العملية السياسية والاستقالة من البرلمان.
منطلقُ كلٍّ من الجناحَين يختلف عن الآخر؛ فأحدهما كان يريد استمرار المشاركة انطلاقاً من الحرص على مغانم السلطة، وهو شجّع تحرّكات الصدر للاستئثار بالسلطة تحت عناوين مِن مِثل «حكومة الأغلبية»، وهذا يضمّ من يسمّون بـ«فاسدي التيّار». أمّا الجناح الآخر، فيشمل، بشكل رئيس، القيادات العسكرية التي قادت المعارك ابتداءً من مقارعة الأميركيين عام 2004، وصولاً إلى القتال ضدّ «داعش» في السنوات الأخيرة؛ وهؤلاء يأخذون على مقتدى افتعاله أزمة في علاقة «الصدري» بإيران، بغضّ النظر عن الشوائب التي يمكن أن تكون اعترت العلاقات بين البلدَين المجاورَين خلال السنوات الماضية. وهي أزمةٌ، ظهر أحد تجلّياتها في إغضاب مؤيّدي التيّار من أتباع المرجع آية الله كاظم الحائري، ما أدّى في النتيجة إلى إعلان الأخير تقاعده وتوجيه مقلّديه بتقليد المرشد الإيراني، آية الله علي خامنئي، في حين يقال إن ابن عمّ مقتدى وشقيق زوجته، جعفر محمد باقر الصدر، كان منزعجاً أيضاً من أخطاء زعيم «الصدري».
الصدر يُجري حالياً مراجعة يميل فيها إلى الاقتناع بخطأ الانسحاب من العملية السياسية وتوتير العلاقة مع إيران


المشكلة الرئيسة أن الصدر قدّم بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تشرين الأول 2021، الجناح الأول، وهمّش الثاني، لأسباب كثيرة دخلت عليها عوامل إقليمية ودولية في ذروة الصراع على العراق بين القوى المؤثّرة فيه. وأدّى هذا الانقسام داخل التيّار إلى تراجع في أدائه، ولا سيما أن الظروف في العراق لم تَعُد مؤاتية له في ظلّ إدارة حكومة محمد شياع السوداني، والتي تحظى بعلاقة جيّدة مع كلّ من طهران وواشنطن، القوّتَين الأكثر تأثيراً في العراق، فضلاً عن تراجع التنافس السعودي - الإيراني على الساحة العراقية، بعد الاتّفاق الأخير بين البلدَين برعاية صينية، في ما يمثّل بمجمله ظروفاً مقبولة مكّنت السوداني من تقديم أداء معقول منذ تولّيه منصبه في تشرين الأوّل الماضي. وتبعاً لذلك، فشل «التيّار الصدري» في التحرّك لوقف اعتماد قانون الانتخاب الجديد الذي ستجري على أساسه انتخابات المجالس المحلّية، ومن ثمّ الانتخابات النيابية المقبلة. فالتيّار اعترض على القانون الذي يرى أنه في غير مصلحته، وهو قانون «سانت ليغو» النسبي، الذي إذا ما اعتُمد فيه قاسم انتخابي عالٍ، كما حصل في التعديلات الأخيرة التي جعلته 1.7، فإنه يصبّ حتماً في مصلحة أحزاب السلطة، ما يشي بأن المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من التراجع لـ«الصدري».
ويُجري الصدر حالياً، وفق مصادر عراقية، مراجعة داخلية، يبدو أنه يميل فيها إلى الاقتناع بخطأ الخيارات التي اتّخذها في المرحلة السابقة، سواء لجهة السعي للاستئثار بالسلطة أو لجهة توتير العلاقة مع إيران. وعليه، فإن خياره هذه المرّة، سيكون اعتماد «فلسفة» الجناح المقاتل الذي ينادي بعلاقة طيّبة مع طهران، بعدما أدرك الصدر أنه من دونها لا يمكن لتيّاره أن يعمل بشكل طبيعي على الساحة العراقية، بل يمكن لخلافها أن يؤدّي إلى نهايته السياسية، وخصوصاً بعدما أصبح تيّاره قابلاً للاختراق وحتى لشقّ الصفوف.
ويحصل ذلك على خلفية التغيّرات الجارية في الشرق الأوسط، حيث لا يبدو أن الأميركيين متمسّكون كثيراً بالبقاء في مناطق معيّنة، أو أنهم يعلمون أن البقاء المادّي لم يَعُد ضرورياً، أو يمكنهم الإبقاء على مستوى أقلّ من الانتشار العسكري. وهذا يندرج ضمن سياسة خفض الانتشار في الشرق الأوسط عموماً، في إطار ترتيبات جزئية مع القوّة الإقليمية المؤثّرة، وهي إيران في الحالة العراقية، وهو ما يُعدّ ترجمةً لسياسة أميركية عنوانها عقد اتّفاقات جزئية حيث يمكن، بمعزل عن استمرار تعثّر الملفّ الأساسي بين واشنطن وطهران، أي المفاوضات النووية. ولعلّ ما يعزّز تلك السياسة هو أن معركة الوجود في الشرق الأوسط بالنسبة إلى الأميركيين تحوّلت إلى حرب على الممرّات المائية، الأمر الذي يؤكده اندلاع حرب السودان ذي الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر، حيث تُعزّز الولايات المتحدة بشكل كبير قاعدتها العسكرية في جيبوتي المجاورة، والتي توجد فيها القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة في الخارج.