في انتظار أن تحسم القيادة السياسية الكويتية، وُجهة الأمور في البلاد، في خطاب أميري تقليدي يُلقى في العشر الأواخر من رمضان، تبقى الكويت تحت تأثير أزمة سياسية حادّة، يصفها سياسيون بالحرجة، في ظلّ صراع ظهَر حديثاً بين رئيس الحكومة العائد، أحمد النواف الصباح، ورئيس مجلس الأمّة الذي كان قد تمّ حلّه، مرزوق الغانم، بعد أن قضى حُكم للمحكمة الدستورية صدر قبل أسابيع قليلة ببطلان المجلس المنتخَب في أيلول 2022، بداعي تناقض في المرسوم الأميري الذي جرى بموجبه حلّ المجلس المنتخَب عام 2020، وبالتالي إعادة المجلس السابق برئيسه ولجانه.وينمّ الصراع المستجدّ هذا، عن حالة خلط للأوراق في التحالفات التي كانت قائمة بين مراكز القوى في الكويت في المرحلة السابقة لتولّي أحمد النواف رئاسة الحكومة، حيث كان الغانم، الممثّل لطبقة التجار وللحضر في آن، أحد الحلفاء الأساسيين للقيادة السياسية، ضمن واقع ممتدّ منذ رئاسة خاله الراحل، جاسم الخرافي، لمجلس الأمّة. لكن منذ صدور ذلك الحكم، لم يستطع المجلس المُعاد ممارسة عمله، بسبب رفض أحمد النواف المثول أمامه، حتى قبل تشكيل حكومته الأخيرة الأحد الماضي، وهي الثالثة برئاسته منذ تكليفه للمرّة الأولى بتشكيل الحكومة في تموز 2022، حيث ينصّ الدستور في مادته 116 على أنه يجب تمثيل الحكومة في جلسات المجلس حتى يمارس أعماله.
الأزمة بين الغانم وأحمد النواف، مردّها أن الرهان الأساسي للأخير لنجاح حكومته، وربّما لطموحاته المستقبلية في تولّي مقاليد الإمارة، يقوم على علاقة مستجدّة بين القيادة والمعارضة الإسلامية والقبَلية القوية، وتحديداً «الإخوانية»، في محاولة لتحقيق استقرار في علاقة متوتّرة تاريخياً بين الحكومات ومجالس الأمّة. وعلى رغم أن مقاليد الإمارة في الكويت تُتوارث بين الإخوة منذ سنوات طويلة، إلا أنه سيأتي يوم تنتقل فيه إلى الأبناء. ويُعتبر أحمد النواف، نجل الأمير الحالي، نواف الأحمد الجابر الصباح، مرشّحاً بارزاً ليكون الأول الذي تنتقل إليه الإمارة من جيل الأبناء بعد وليّ العهد، مشعل الأحمد الجابر الصباح.
وبهذا المعنى يكون قرار «الدستورية» إبطال مجلس 2022، والذي تسيطر عليه المعارضة، خطوة تقنية فحسب، وبالتالي تكون إعادة المجلس المنتخَب عام 2020 عملية مؤقتة، في انتظار اتّخاذ القيادة السياسية قراراً جديداً بحلّ المجلس، يتلافى المخالفات التي سجّلتها المحكمة في قرار الحلّ السابق، ومن ثمّ الدعوة إلى انتخابات جديدة.
ذلك على الأقلّ ما يريده رئيس الوزراء، ليبقى السؤال الأساسي يتمحور حول موقف مشعل الأحمد، الذي يدير الشؤون اليومية للبلاد في ظلّ مرض الأمير. وإذ لا يزال موقف الأخير موضع تكهّنات غير واضحة في الكويت، في انتظار حسمه في خطاب العشر الأواخر، والذي سيلقيه وليّ العهد باسم الأمير، فإن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة أحمد النواف وامتناع الأخير عن المثول أمام مجلس الأمّة، يوحيان بوقوف القيادة السياسية إلى جانبه. وهو ما يشي بدوره بأن المسألة تتجاوز تشكيل حكومة وحلّ مجلس أمّة، إذ يتوقّف مستقبل الحكم في البلاد على ما يجري حالياً، حيث يظنّ معارضون للقيادة أن ثنائية مشعل الأحمد - أحمد النواف بدأت تظهر كقيادة سياسية مستقبلية برضى الأمير.
ما يجري يجعل التسوية التي قادها الغانم مع النائب عبيد الوسمي كممثّل للمعارضة، وأسفرت عن عفو أميري أتاح عودة المهجّرين إلى تركيا من النواب السابقين والناشطين، تستمرّ من دون الغانم الذي كان قد عزف عن الترشّح في انتخابات 2022، التي حقّقت فيها المعارضة فوزاً كبيراً متوقّعاً. وكان الغانم يأمل بأن تنتج تلك الانتخابات مجلس تأزيم يتيح له العودة لاحقاً. لكنّ الذي حصل هو أن العلاقة بين مجلس 2022 الذي ترأّسه زعيم المعارضة، أحمد السعدون، وحكومة أحمد النواف الأخيرة، ظلّت مستتبّة نسبياً. وحتى المعارضة، وإن استفادت من التسوية المُشار إليها، إلا أنها لا تَعتبر الوسمي ممثّلاً لها، بل إنها اختلفت معه على شروط التفاهم، وذلك ما يجعل الأخير مستاءً مثل الغانم من قرار المحكمة الدستورية، وهو ما عبّر عنه بالهجوم الذي شمل به بعض أفراد الأسرة، قاصداً تحديداً رئيس الوزراء، متّهماً إياه بالتدخّل في عمل القضاء.
وهذا بدوره ما يضع الغانم والوسمي في جبهة واحدة ضدّ ذلك الجزء من الأسرة، وهو ما عبّر عنه الغانم حين دعا الأمير ووليّ العهد «إلى التدخّل الفوري لوقف العبث والتعطيل والتسويف التي يمارسها رئيس الوزراء تجاه مصالح الشعب وأحواله»، كاشفاً أنه «طلب باسمه وباسم نواب المجلس العائد مقابلة الأمير، إلا أنه لم يُمكَّن من ذلك. ونحن نسمع أن رئيس الوزراء هو الذي يَمنع بسبب وضعه الاجتماعي (كونه نجل الأمير) تواصلنا المباشر مع الأمير». من جهته، قال الوسمي: «لا أعلم مدى دقة المعلومات باستدعاء المستشار رئيس المحكمة الدستورية والطلب منه تقديم استقالته على خلفية حكم قضائي!»، في إشارة إلى قرار إبطال مجلس 2022.
الأزمة بين الغانم وأحمد النواف مردّها أن الرهان الأساسي للأخير يقوم على علاقة مستجدّة بين القيادة والمعارضة


بعض المغرّدين على «تويتر» سعوا إلى الترويج لشائعات عن أن الغانم يسعى إلى التواصل مع شخصيات قريبة من وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي تربطه علاقة وثيقة بالشيخ مشعل، للضغط عليه لوقف ما يقوم به أحمد النواف، بداعي أن ذلك يقوي جماعة «الإخوان المسلمين». إلّا أن مصادر كويتية تستبعد ما تَقدّم تماماً؛ فالأمور لا تسير على هذا النحو، بل إن الغانم لا يمكنه العمل إلّا تحت جناح أسرة الحكم، كونه لا يملك خلفية قبلية ولا عقائدية، وإنّما هو ممثّل لطبقة التجار والحضر التي تهيمن على الاقتصاد الكويتي، وكانت ولا تزال تُعتبر حليفة للقيادة السياسية، وإحدى الركائز الأساسية للحكم. وكان الأمير الذي يتكرّر سفره إلى الخارج لتلقّي العلاج، قد أوكل معظم صلاحياته إلى وليّ العهد، ما يجعل الأخير شريكاً فعلياً في الحكم، إلا أن الأول لا يزال يستطيع القيام ببعض الأمور، ولا يزال القرار الأخير يعود إليه، لكن وضعه الصحي يتيح للأقوياء من حوله استخدام الأمر في السياسة.
المرجّح في ظلّ الانسداد السياسي الحالي، هو أن مشعل سيتّخذ قراراً جديداً بحلّ مجلس الأمة المُعاد تنصيبه، والدعوة إلى انتخابات جديدة، ما سينتج مجلساً مماثلاً لمجلس 2022 الذي حقّقت المعارضة القبَلية والإسلامية فوزاً كبيراً فيه. والمعارضة هذه قادرة دائماً على الفوز إذا وقفت القيادة السياسية على الحياد، وهو ما سيحصل على الأرجح بالاستناد إلى خطاب مشعل الذي أعلن فيه حلّ مجلس 2020 في مطلع الصيف الماضي، حين تعهّد بأن لا تتدخّل السلطة في الانتخابات، الأمر الذي تَحقّق بالفعل وجاء بموجبه السعدون رئيساً للمجلس.
في كلّ الحالات، يبقى الشعب الكويتي هو الذي يدفع الثمن الأكبر للأزمات المتوالدة من رفاهه وتنمية بلاده.