هل يشهد لبنان انتخاب رئيس للجمهورية في الأسابيع المُقبِلة؟ طرح السؤال نفسه على المشهد السياسي، أخيراً، حينَ زادت وتيرة الاستفسارات حول ما سمّي تسوية انتخاب سليمان فرنجية رئيساً في مقابل السفير نواف سلام على رأس الحكومة الجديدة. بدا وكأن هذا الملف قد استعاد حرارة محكومة بخطّ سير المناخ العربي - الغربي، بعدما حاولت باريس تسريع الخطى في اتجاه فتح باب حل للأزمة، ثم تلاشَت بفعل «المياه الباردة» التي تسكبها المملكة العربية السعودية. حتى الآن، لم يبلغ فرنجية أول الطريق في المساعي الرامية لإيصاله، وهو الإعلان الرسمي عن ترشيحه. أما آخر الطريق فيبقى رهن مجموعة أسئلة تشغل المؤيدين للتسوية والمتحفظين عليها.بعدَ الاجتماع الخماسي في باريس أوائل الشهر الماضي، صدرت عن الأطراف المشاركة (أميركا، فرنسا، السعودية، مصر وقطر) مواقف علنية تشدد على وضع حدّ للشغور. أُبلِغت القوى السياسية عبر سفراء هذه الدول بمداولات الاجتماع في سياقها العام من دون نقل موقف محدد وواضح من أي مرشح. واتضح في ما بعد أن أياً من القوى لم يصلها «محضر» مثبت عن حقيقة ما حصل، إلى أن جرى تداول أخبار عن نقل الفرنسيين رسالة إلى حزب الله تطرح مقايضة فرنجية - سلام، وهي مقايضة لا تزال بعيدة المنال. إذ إنها تسوية تملك مفاتيحها قوى إقليمية ولن تنضج إلا مع ارتسام تفاهمات تتصل بأكثر من ملف يتجاوز لبنان إلى واقع المنطقة، وأي كلام غير ذلك يبقى بعيداً من الواقع.
ولهذه «التسوية» أكثر من رواية:
واحدة تقول إن الفرنسيين أعادوا طرحها في الاجتماع الخماسي إلى جانب طروحات أخرى، استناداً إلى «الواقعية الفرنسية» في التعامل مع الملف اللبناني. إذ تدرك باريس أن إنجاز الملف الرئاسي لا يُمكن أن يتمّ بمعزل عن حزب الله. بالتالي فإن انتخاب الرئيس يجب أن يكون من خلال تسوية تؤمن فوزاً لطرفي الصراع. وعليه، لا تتعاطى باريس بسلبية مع فرنجية كمرشح ولم تعلِن رفضاً قاطعاً لترشيحه، ووفقَ معلومات «الأخبار»، فقد استقبله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبلَ أشهر قليلة في الإليزيه من دون الإعلان عن اللقاء.
رواية أخرى تستند إلى «البراغماتية الأميركية» التي لا تمانع بتسوية كهذه، وهي ترى مصلحة في الحد من الأضرار التي خلفها مشروع الفوضى في لبنان، خصوصاً أن الأميركيين يدركون بأنه لم يحقق الهدف المنشود بضرب حزب الله ومحاصرته.
ورواية ثالثة تتحدث عن دوغمائية الرياض التي لم تغادر مربع التصلب السياسي بشأن الأزمة في لبنان. فالملف اللبناني، بالنسبة للسعودية، يأتي في المرتبة الأخيرة بعد اليمن والعراق وسوريا، وهي تتعامل من منطلق أنها «المحفظة المالية» الوحيدة التي يمكنها إنعاش البلد وفي موقع من يُحتاج له ولا يحتاج أحداً، بالتالي لا تجد نفسها ملزمة التسليم بالتعايش مع نفوذ خصومها على قاعدة ربط النزاع. المؤكّد أن الرياض هي الوحيدة التي أعلنت موقفاً سلبياً من فرنجية في اجتماع باريس، باعتباره «غير مطابق للمواصفات» السعودية. وهذا الموقف السلبي قادر على تجميد أي حراك غربي، لأن المعاندة السعودية تجعل صعباً تأمين مرور سهل لورقة فرنجية، لأسباب عدة، من بينها:
أولاً، خسارة فرنجية لعدد من الأصوات النيابية السنية التي لا يزال الفريق المؤيد له يراهن عليها لرفع «سكوره». فدخول الرياض في التسوية يعني غطاء سنياً كاملاً لرئيس «المردة».
ثانياً، تنفيذ رئيس «القوات» اللبنانية سمير جعجع تهديده بـ «المقاطعة» كما قال في مقابلته مع صحيفة «الشرق الأوسط» قبل يومين. إذ لفت إلى أنه «في حال استطاعوا أن يجمعوا 65 صوتاً لمرشحهم، سنقاطع طبعاً». علماً أن الوسط المحيط بفرنجية كانَ يراهن على أن الكتل المسيحية الكبيرة لا يُمكن أن تتحمل وزرَ تعطيل الانتخاب من خلال مقاطعة الجلسات باستمرار. لكن يبدو أن ذلك أصبحَ وارداً.
فوقَ ذلك، يبقى أن العقبات التي تعترض انتخاب فرنجية ليست عددية فقط. لأن مؤيدي ترشيحه يدركون بأن توفير الأكثرية الدستورية اللازمة لانتخابه ليس وحده ما هو مطلوب. بل إن تأمين ظروف نجاحه بعدَ الانتخاب هي الأهم، إن من خلال معالجة «العقدة» المسيحية التي تعتبر انتخابه فرضاً من قبل القوى الإسلامية ضد القوى المسيحية الأكثر تمثيلاً، وضمانة أن لا يكون فرنجية معزولاً من الخارج». فالهدف ليسَ انتخاب فرنجية ونقطة على السطر، بل أن لا تكون المرحلة المقبلة استكمالاً لمرحلة الانهيار التي استحقت قبل ثلاث سنوات، بعدَ عقود من السياسات الخاطئة والمدمرة.