قد يصعب على القاطنين في لبنان تخيّل أن العيشة في ربوع بلاد الأرز باتت تعدّ ترفاً يسعى إليه الكثير من اللبنانيين في قطر. إلا أن المتابعين لأحوال الإمارة يدركون أن الواقع غير المتخيّل، وبأن بوادر الأزمة الاقتصادية بدأت تطلّ برأسها منذ سنوات، خاصة بعد الحصار الخليجي الذي تعرّضت له قطر منتصف عام 2017. ورغم نجاح قطر في تنظيم بطولة كأس العالم بشكل مبهر، إلا أن فعاليات الحدث العالمي لم تنعكس إيجاباً على الاقتصاد وفرص العمل، حيث يشير العديد من أفراد الجالية اللبنانيّة في قطر إلى أنه، وقبل انطلاق البطولة بأشهر، كانت معظم المشاريع الحكومية المرتبطة بالبنية التحتية قد توقفت، ومنذ ذلك الحين لم تفتح أي اعتمادات حكومية لمشاريع جديدة ذات أهمية تذكر ما أثر سلباً على القطاع الخاص، وأدى إلى تسريح الشركات لأعداد كبيرة من الموظفين من مختلف الجنسيات ومن جملتهم اللبنانيين.
استثمارات مخيّبة
وفي هذا الإطار يشير صافي عبود، وهو مغترب لبناني في قطر منذ زمن طويل، ومؤسّس مبادرة «قوتنا بوحدتنا» بالتعاون مع الإعلامية جيهان شهاب ووليد صعب (التي تهدف إلى دعم اللبنانيين في قطر ومساعدتهم) إلى أن «وضع اللبنانيين في الإمارة مزرٍ. فمنذ عام 2020 باتت هناك نسبة كبيرة من اللبنانيين في قطر عاطلة من العمل. عدد من الشركات التي يملكها لبنانيون أفلست، وكثر غادروا، وهنالك أعداد كبيرة تسعى إلى الرحيل قريباً بعد انتهاء العام الدراسي. حتى الآمال التي علّقها بعض اللبنانيين على كأس العالم أتت مخالفة للواقع. فقبل انطلاق البطولة بأشهر، افتتح عدد كبير من اللبنانيين مطاعم في قطر، ومجمل هذه الاستثمارات كانت مخيّبة، ومعظم المطاعم التي افتتحت عادت وأغلقت أبوابها من دون تحقيق أي أرباح تذكر».

السرّ المعلن
الصورة التي ينقلها عبود عن واقع الجالية اللبنانية في قطر ليست جديدة، وهي أشبه بالسرّ المعلن الذي يتناقله كل اللبنانيين في قطر، رغم رغبة الكثيرين بعدم الإفصاح عن أسمائهم. فمنذ أشهر، فقد باتت الأخبار عن لجوء لبنانيين إلى المساجد للنوم لعدم قدرتهم على سداد إيجارات منازلهم معروفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سجن أعداد من اللبنانيين لتخلّفهم عن الإيفاء بالتزاماتهم الماليّة. معلومات يؤكدها عبود الذي يتحدّث عن «عشرات الشبان اللبنانيين الذين ينامون في المساجد وفي الحدائق العامة، وهنالك أكثر من 100 شاب مسجونون حالياً بسبب تعثرهم مادياً، وعدم دفعهم لإيجارات منازلهم أو عدم سدادهم لشيكات مستحقة عليهم. والكثير من هؤلاء الشباب متزوّجون وعائلاتهم تقطن في قطر معهم، وباتت هذه العائلات متروكة. نحاول كجالية المساعدة قدر المستطاع وتأمين ما يلزم من أكل وشرب للنساء والأطفال. لكن من يقدر على تحمّل كلفة الإيجارات؟ فأحوالنا نحن أيضاً باتت صعبة للغاية، ورواتبنا تآكلت بأكثر من النصف منذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان».
شركات توهم لبنانيين بتأمين فرص عمل مقابل آلاف الدولارات وتتركهم لمصيرهم


يتحدّث عبود عن «استفتاء أجريناه منذ فترة قريبة وشارك فيه 3 آلاف لبناني مقيم في قطر، تبيّن على أثره أن 60% من اللبنانيين عاطلون من العمل فيما يعمل نحو 40% برواتب أقل من السابق. هنالك الكثير من الشركات استبدلت لبنانيين مقيمين في قطر منذ زمن طويل، بلبنانيين آخرين قادمين من لبنان ارتضوا العمل بالوظائف نفسها لكن مقابل رواتب أقل بنحو النصف وأكثر. هذا الأمر انعكس سلباً على المقيمين في قطر والذين لديهم التزامات مادية كبيرة من حيث الإيجارات وأقساط المدارس والسيارات وغيرها، ما دفع الكثيرين إلى بيع سياراتهم وأثاث منازلهم، وهنالك من أرسلوا عائلاتهم إلى لبنان وانتقلوا إلى السكن في شقق صغيرة مع مجموعات كبيرة من الشباب».

شركات وهمية
أما المصيبة الكبرى وفقاً لعبود، فتكمن في «مظاهر الاستغلال المتفشية التي يشارك فيها لبنانيون عبر شركات وهمية والبعض من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال إيهام من يرغب بالهجرة من لبنان إلى قطر بتوفير فرص عمل لهم مقابل دفع كلفة التأشيرة بأسعار تزيد عن 2500 دولار. ويلجأ العديد من المساكين في لبنان، غير المدركين لواقع الحال إلى بيع سياراتهم ومجوهرات زوجاتهم لتأمين كلفة الفيزا. وفور وصولهم إلى قطر يُتركون لمصيرهم، من دون عمل ولا سكن، ويلجؤون إلينا كجالية لمساعدتهم للعودة إلى لبنان، أو لتأمين فرص عمل لهم. وقد حاولنا المساعدة لكن الطلب كبير جداً ويفوق العرض».

السفارة غائبة
ويشير عبود، كما العديد من اللبنانيين في قطر الذين فضلوا عدم ذكر أسمائهم، إلى «غياب السفارة اللبنانية عن السمع رغم النداءات المتكررة. فالسفارة تقول بأنها ليست جمعية خيرية. وهي لم تكلّف نفسها حتى بنشر بيان تحذيري لتنبيه اللبنانيين من حالات الاستغلال والغش. ونحن في صدد تشكيل وفد كبير للتوجه ومقابلة السفيرة فرح بري لعرض الواقع ومحاولة إيجاد حلول. ومن جملة المطالب التي سنعرضها أن تعتمد السفارة الأسلوب الذي اعتمدته السفارة الفليبينية في قطر والتي تطلع مسبقاً على أي عقد عمل لأي مواطن فليبيني وتتحقق من توافر عدد من الشروط الضرورية».

نصيحة للمسافرين
ينبّه عبود كلّ راغب بالمجيء إلى قطر، إلى أن «الأسرة المؤلفة من 4 أفراد تحتاج في الحد الأدنى إلى مدخول لا يقلّ عن 3000 دولار للعيش في السترة. فإيجار منزل لائق لأسرة بهذا الحجم يقدر بنحو 1500 دولار، عدا المصاريف الأخرى من نقل وكهرباء وإنترنت وأكل وشرب». ويوضح أن اللبناني «لم يكن يقبل بالعمل سابقاً بأقل من 3000 دولار شهرياً في قطر. أما ومع الأزمة الاقتصادية في لبنان فهنالك شباب يقبلون بالعمل مقابل 500 دولار وكحد أقصى 1000 دولار. فلكم أن تتخيلوا كيف يعيشون وواقع الحال، وهناك وظائف لم يكن اللبناني يرضى العمل بها سابقاً في قطر مثل الندّل في المطاعم، ومعلمي النراجيل، وموظفي سوبرماركت، وهي وظائف بات منتشرة بين عدد من أبناء الجالية».



منصة التوظيف في قطر: لا أرقام عن أعداد المستفيدين!
في 10 تشرين الأول المنصرم أطلق وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم منصة لتوفير فرص العمل لمن يرغب من اللبنانيين في قطر بالتعاون مع وزارة العمل القطرية، خاصة أن «ما يهمّ القطريين هو الكفاءة والخبرة لإنجاح المونديال أولاً، والوظائف المستدامة أيضاً». وقد اقتصر دور الوزارة على تأمين المنصة والتعاون مع وزارة العمل القطرية للبحث في الشكاوى من الجانبين، من دون أن يكون لها أي دور في عملية التوظيف التي تعود إلى الشركات القطرية المهتمة، التي تدخل إلى المنصة وتبحث عن مطلبها وعن الأشخاص المؤهلين للوظيفة المطلوبة.
وعلى الرغم من تشديد بيرم على أن العدد المطلوب كبير للوظائف، فإن الوزارة لا تملك أرقاماً دقيقة عن أعداد اللبنانيين الذين وُظّفوا عبرها. وفي هذا الإطار، يلفت يعقوب مرعي، المسؤول عن الموقع الإلكتروني لوزارة العمل أن «المنصة محصورة باسم شركة توظيف قطرية معتمدة من قبل وزارة العمل القطرية، وهي الوحيدة التي يمكنها الدخول إلى المنصة وقبول الطلبات. وكان هنالك اتفاق بيننا وبينهم بأن تزوّدنا الشركة في كلّ فترة بأرقام عن أعداد اللبنانيين الذين تم توظيفهم من خلال المنصة لكن بعد كأس العالم انقطع التواصل بيننا وبينهم، ولم نزوّد لا خلال فترة كأس العالم أو حتى اللحظة بأي أرقام». أما عن مستقبل المنصة فيبدو أنها متوقفة حتى إشعار آخر كون «الوزير طلب التوقف عن قبول الطلبات لاعتباره أن عدد الذين تقدموا للعمل عبر المنصة أصبح كافياً».
في المقابل يؤكد عدد من المغتربين اللبنانيين في قطر، من المتابعين لأحوال الجالية، أن «المنصة لم تكن فعالة، والغالبية الكاسحة ممن وظفوا من خلالها، وظفوا بشكل مؤقت لتغطية فترة كأس العالم فقط ثم صُرفوا من أعمالهم. والرواتب التي تقاضوها كانت زهيدة وبعضها لم يتخطّ 500 أو 600 دولار».