لطالما كانت تمر أخبار تلقي الهبات وقبولها مرور الكرام، ويمر في البال معها أن «من الطبيعي» أن تكون هناك سمسرات، ولكن لم يخطر في البال أن يؤدي الفجور إلى عدم قيام أي اعتبار لأي غطاء قانوني، ولو شكلي، للتعمية على هذه السمسرات على الأقل. على العكس من ذلك، اللعب «على المكشوف» باعتبار أن أحداً لا ولن يحاسب أحداً. هكذا، مثلاً، حُوّلت أموال هبات لمكافحة جائحة كورونا إلى مصرف خاص لتتمكن وزارة الصحة من التصرف على «راحتها» من دون حسيب أو رقيب، وسخّر حساب للوزارة نفسها في مصرف لبنان لخدمة شركات خاصة اشترت عبره اللقاحات، لتستفيد من التسهيلات وربما الدعم، وكأن الدولة رسمياً هي من تستوردها، واستُخدم مبلغ 18 مليون دولار من هبة مخصصة لإعادة الإعمار للاكتتاب في سندات يوروبوندز بطلب من سعد الحريري... وغير ذلك من مئات ملايين الدولارات أنفقت خارج أي رقابة، ومستندات جلّها مفقود. 26 عاماً من الفضائح المستمرة، طاولت 92% من الهبات الواردة إلى الدولة بين 1997 و2022، وثّقها ديوان المحاسبة في تقريرٍ خاص من 92 صفحة حصلت عليه «الأخبار»
قبل 6 أشهر، ولدى مباشرة التدقيق في حسابات الدولة عن الأعوام 1993 وما يليها في الغرفة الرابعة في ديوان المحاسبة، تبين وجود مبالغ تقدّر بمليارات الدولارات عائدة لهبات مقدّمة للدولة اللبنانية من جهات خارجية وداخلية شابتها مخالفات كثيرة لجهة الموافقة على قبولها وإنفاقها وغير ذلك. ما دفع رئيسة الغرفة نيللي أبي يونس، بالتعاون مع المستشارتين نجوى خوري ورانية اللقيس إلى إعداد تقرير بعنوان «الهبات بين التشريع والواقع»، تكشفت فضائح الهبات التي تسلّمتها الدولة.
بيّن التقرير أن 293 مرسوماً لقبول هباتٍ صدرت بين عامي 1997 و2010، إلا أن 23 منها فقط سُجّلت وفق الأصول ضمن حساب الخزينة (الحساب 36)، ولها بالتالي قيود محاسبية، ما يعني أن 8% فقط من الهبات، خلال 14 عاماً خضعت لرقابة وزارة المالية، ودخلت ضمن حسابات الدولة العامة عبر تسجيلها في واردات الخزينة، وتالياً احتُسبَت أثناء إعداد الموازنات وقطع الحسابات. أما الـ 92% المتبقية فبقيت بعيدة عن حساب خزينة الدولة، ما عطّل إمكانية مراقبتها من وزارة المالية وديوان المحاسبة، وأتاح بالتالي صرفها من دون أن يعلم أحد متى وكيف وأين وبأي قدر.
كذلك تبيّن أن بعض هذه الهبات أُدخِلَت مباشرة إلى حساب حصيلة سندات خزينة بالدولار الأميركي في مصرف لبنان عندما كان هذا الحساب مكشوفاً أي مديوناً. فعلى سبيل المثال، قدّمت سلطنة عُمان هبة لمصلحة مجلس الإنماء والإعمار بقيمة 10 ملايين دولار (العملية رقم 17582 بتاريخ 14/ 12/2007)، وقد صُرفت أموال الهبة وفوقها 10 ملايين دولار. ولدى السؤال عن مستنداتها تبين أنها «مفقودة»، وعليه ستكون بحسب القاضية أبي يونس «محلّ تحقيق من قبل النيابة العامة في الديوان».
المخالفة الكبرى أقدمت عليها وزارة الصحة التي فتحت حساباً في مصرف خاص هو «البحر المتوسط»، بهدف تلقي الهبات لمجابهة جائحة كورونا، ما يشكّل تجاوزاً صارخاً. إذ تمنع كل القوانين فتح حسابات خاصة بالوزارات ومؤسسات الدولة العامة في المصارف الخاصة. وقد طلب الديوان من لجنة الرقابة على المصارف موافاته بكافة الحسابات الخاصة بالوزارات المفتوحة في المصارف الخاصة، إلا أن أبي يونس أوضحت لـ«الأخبار» أن رد اللجنة الذي جاء متأخراً عن تاريخ إصدار التقرير، كان سلبياً متذرعةً بعدم قدرتها على الإفصاح عن المعلومات المطلوبة، وأنه يجب توجيه الطلب إلى مصرف لبنان.
كذلك كشف التقرير أن عدداً من شركات الأدوية الخاصة تستخدم حساباً في مصرف لبنان مفتوحاً لمصلحة وزارة الصحة، تضع فيه الشركات أموالاً لشراء لقاحات كورونا بالتنسيق مع وزارة الصحة التي قبلت بمخالفة القانون لجهة عدم جواز استخدام الشركات الخاصة لحسابات الدولة في مصرف لبنان، من دون أي علم لوزارة المالية بالأمر.
من الصحة إلى الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار، النهج واحد. في «الاكتشافات»، أن السعودية قدمت هبة للبنان مخصصة لإعادة الإعمار، خُصص قسم منها لمكب نفايات صيدا، وفُتِح لها حساب باسم الهيئة العليا للإغاثة. عام 2011 طلب رئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، كون الهيئة تابعة لرئاسة الحكومة، وبتوقيع مشترك مع مجلس الإنماء والإعمار، تحويل مبلغ 18 مليون دولار من أموال الهبة لمصلحة شركة «MIDCLEA» لشراء سندات يوروبوندز (استحقاق 2021). وفي 26/11/2019 وجّه رئيس مجلس الإنماء والإعمار كتاباً إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لتصفية الرصيد المتبقي من السندات التي تم الاكتتاب بها وقيمتها مليون و500 ألف دولار لتغذية حساب الهيئة العليا للإغاثة بمشروع الأشغال البحرية لحماية منطقة جبل النفايات في صيدا، إلا أن الحاكم لم يتجاوب. ما يعني أن «الدولة لديها فعلياً رصيد يوروبوندز بقيمة مليون ونصف مليون دولار أشبه بدين معدوم» تقول أبي يونس، متوقفة عند مخالفة وجهة استعمال الهبة وأيضاً تاريخ استحقاق السندات بعد عشر سنوات من تاريخ الاكتتاب، ما اعتبره الديوان أمراً لافتاً.
استخدمت شركات خاصة حساباً لوزارة الصحة في مصرف لبنان لاستيراد أدوية مستفيدة من التسهيلات


ومن «الرقابة النائمة» إلى «الحسابات النائمة». إذ تبين أن لبنان تسلم مجموعة هبات جزء منها غير محدّدة وجهة إنفاقه، صُرِفَ قسم منها وبقي قسم معلّقاً في مصرف لبنان يقدّر بملايين الدولارات. كما اتضّح أن بعض المشاريع لديها أكثر من حساب. أي أن المشروع نفسه لديه حساب داخل الخزينة وآخر خارجها، كالبرنامج الوطني للأسر الأكثر فقراً والبرنامج الوطني للتطوّع. في حين أنه يفترض خلق حسابٍ واحد داخل الخزينة. بمعنى أوضح حسابات البرامج داخل الخزينة تخضع للرقابة وخارجها لا تعرف المالية عنها شيئاً ولا كيف يتم الصرف منها.
التلاعب بالأموال وإحاطة أوجه صرفها ومصيرها بالغموض، طاول هبة قدمها الاتحاد الأوروبي بقيمة 30 مليون يورو لمصلحة وزارة المالية والـ«undp» والهيئة العليا للإغاثة. عام 2000 وضعت الأموال في حساب أمانات، ولم تقيد في إيرادات الدولة. الجزء الثاني من الهبة كان بقيمة 12 مليون يورو وفُتِحَ حساب خاص بها في مصرف لبنان خارج حساب الخزينة، ولم يصدر بشأنها مرسوم، ولا تعرف المالية كيفية صرفها باستثناء الجزء الذي يعود لها، وخصص لبرنامج ضريبة على القيمة المضافة، أما الباقي فلا مستندات بشأنه. بطريقة أخرى، أقل من 42 مليون يورو بقليل لا يعلم أحد أين صرفت.
وإلى وزارة التربية التي حصلت عام 2019 على سلف طارئة من أصل الهبات، ووفقاً للأصول عيّنت قيّماً (موظف في الوزارة مسؤول عن أموال السلفة)، يقع على عاتقه عند تاريخ التسديد تقديم مستندات ثبوتية بالصرف إلى وزارة المالية. لكن التعيين بقي شكلياً، إذ لم يبلّغ الشخص المعني بالأمر وأدار الحساب شخص آخر. ولتسمية الأشياء بأسمائها يوجب القول، إن عملية غش مقصودة ومتعمدة كي تتم إدارة الحساب من قبل شخص لا يزال مجهول الهوية ولا يمكن محاسبته ولا معرفة ماذا فعل، إذ إن في هذه الحالة لا سندات ثبوتية ستقدم، مما استدعى أن تكذب وزارة التربية على وزارة المالية بشأن الشخص القيم على الحساب.
كما تبيّن أنه ليس هناك من آلية لتسجيل الهبات العينية، علماً أن المادة 6 من قانون محاسبة المواد يتحدّث عن تسجيل الهبات العينية حسب قيمتها السوقية. وفي غياب آلية التطبيق فإن كل الهبات العينية التي دخلت وتدخل البلد لا تخضع للرقابة وليس لها أي وجود في حسابات الدولة.
أما الهبات التي أعطيت للمؤسسات العامة، كالهيئة العليا للإغاثة والإنماء والإعمار الخ... وطُلِب منها تنفيذ المشاريع نيابة عن الوزارات، فقد كان من المفترض أن تقدّم المؤسسات بشأنها كشف حسابٍ إلى وزارة المالية بعد انتهاء تنفيذ المشروع لإثبات أن هدراً للأموال لم يحصل، إلا أن المؤسسات تتخلّف عن ذلك، وتبقى بمنأى عن المحاسبة.
كما اكتُشف أن عدداً مهماً من الهبات تم قبولها بقرارات من الوزراء أو بمراسيم استثنائية موقّعة من رئيسي الجمهورية والوزراء في مخالفة للأصول، ما استتبعه فقدان المالية لقدرتها على المراقبة، كون الهبة لم تصدر بمرسوم من مجلس الوزراء مجتمعاً، بالتالي لم تدخل حساب خزينة الدولة (الحساب 36). وخلال البحث برز حجم التشعّب في الحسابات في مصرف لبنان، فهناك ثلاثة حسابات باليورو والليرة والدولار، إضافة إلى 21 حساباً لمختلف الوزارات (لكل وزارة أكثر من حساب) وبالعملات المختلفة. الأمر الذي يصعّب عملية ضبط مالية الدولة ومراقبتها، في حين أن المطلوب والبديهي هو توحيد الحسابات.
وسيسلم وفد من الديوان التقرير إلى رئيسي مجلس الوزراء ومجلس النواب اليوم. وقسّم التقرير إلى ثلاثة أقسام، الأول «الهبات في ضوء التشريع اللبناني»، وهو قانوني بحت يتحدّث عن صلاحية قبول الهبات والقانون الواجب تطبيقه على الإنفاق من أموالها. أما الثاني «الهبات في ضوء الواقع» فتطرق فيه معدو التقرير إلى واقع حال الإجراءات العملية لقبول الهبات وقيدها في الحسابات المالية للدولة مع تحديد قيمتها ومراقبة الإنفاق منها، وجميعها خالفت الأحكام التشريعية في غالب الأحيان. والثالث «الرقابة على أموال الهبات والتوصيات»، وفيه يتّضح أن غالبية الهبات بقيت خارج أي رقابة وتدور شبهات حول صرف أموالها، وبعضها فتحت بشأنه تحقيقات قضائية.
ولا بد، أخيراً، من الإشارة إلى أمرين، أولاً أهمية الهبات. إذ إن الوزارات حصلت على هبات نقدية وعينية عديدة لا سيما منذ عام 1993 ضمناً قدّرت بمئات ملايين الدولارات، ومن أكثر من جهة داخلية وخارجية وبعملات مختلفة، حتى أن الهبات شكّلت المصدر الرئيسي الداعم لإيرادات الموازنة العامة لا سيما في الاعتمادات الإضافية حيث موّلت من أموال الهبات حصراً في بعض السنوات كالعام 2000. ثانياً، تعذّر على الديوان البحث في أوضاع الهبات بين الأعوام 1993 و1996، إذ تدّعي وزارة المالية أن مستنداتها فقدت في حريق شب في الوزارة، ما يعني أن التقرير عملياً شرّح الهبات بين الأعوام 1997 ضمناً لغاية 2022.
بالاستناد إلى ما تقدم، وبهدف الحفاظ على أموال الهبات التي هي من الأموال العمومية، أورد التقرير جملة توصيات، كما أنه بصدد فتح تحقيقات ببعض الهبات. وفي الاستنتاجات يكشف التقرير كيف أن الهبات تشكّل باباً واسعاً للفساد والاحتيال وهدر أموال من المفترض أن يستفيد منها المجتمع ككل، وأنه ليس سوء الإدارة وحده ما يخلق واقعاً كهذا، ولا نقص القوانين، إنما النية المسبقة لاستغلال السلطة وتعمّد التهرّب من الرقابة.