لم تعد جمعيّة المشاريع الخيريّة فرعاً من فروع شجرة 8 آذار. قرار إعادة التموضع ليس جديداً على تنظيمٍ عاش فولاذيّة أمنيّة - خدماتيّة قبل أن تبدأ قوّته بالتقهقهر بعد توقيف الأخوين عبد العال إثر اتهامهما بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ثم الانسحاب السوري من لبنان وبدء مرحلة «التكفير السياسي» للسنّة الذين لا يدورون في فلك تيار المستقبل.«خلخل» ذلك نفوذ «الجمعية» التي بدأ قياديوها نقاشاتٍ داخليّة حول الحفاظ على وجودهم وعدم استفزاز بيئتهم. حينها، سادت وجهة نظر مؤيّدة للانكفاء عن الشأن السياسيّ والتركيز على القضايا الاجتماعيّة والتربويّة. لم تخرج «الجمعيّة» من السياسة بشكلٍ كلي، لكنها ابتعدت عنها قدَر الإمكان، فصاغت تحالفاتها التقليديّة مع «8 آذار» في كثير من الاستحقاقات، ولكن بعيداً من الأضواء، قبل أن تبدأ بالعودة إلى الظهور، لتخوض الانتخابات النيابية عام 2018 جزءاً من لائحة حزب الله وحركة أمل في بيروت.
مع الانتخابات النيابية عام 2022، بدا أن «الأحباش» صاروا «جمعية ثانية». لم يكن خوضهم الانتخابات مستقلين المؤشر الوحيد إلى ذلك بعد «ورشة تجديد» قامت بها. خطابها وأدبيّاتها السياسيّة وأداؤها جميعها تؤكد أنّها أنهت عمليّة «انسلاخها» عن حلفائها القدامى، بنجاح.
يرفض قياديو «الأحباش» تسمية هذا التغيير «إعادة تموضع»، باعتبار أنه جاء نتيجة مسار طويل تمخَّض عن قراءة سياسية كاملة للأوضاع السياسيّة، وليس ردّة فعل أو «نقلاً للبارودة من كتف إلى آخر». بالنسبة إليهم، ما حصل في 17 تشرين 2019 ليس تفصيلاً، وفرض على كل القوى السياسية أن تقوم بمراجعة ذاتيّة و«خصوصاً أننا موجودون على الأرض بين الناس ونسمع خطابهم». يُدرك هؤلاء أن جمهور «الأحباش» لا يُغيّر موقفه السياسي على قاعدة أنّه مرتبط عقائدياً وإيديولوجياً بـ«الجمعيّة»، ومع ذلك يبرّر القياديون أنّ «عنوان رحلتنا مع الجمهور منذ تأسيس الجمعية هو الثقة».
«تغيير وجه» الجمعيّة حتى اليوم أتى بثماره بالنسبة إلى البعض، إذ أنتج قوّة سنيّة هي بالنسبة إليهم الأولى في بيروت ومن ثم في لبنان مع انكفاء الرئيس سعد الحريري. لم يحصل حزب سني غير «الأحباش» على نائبَين ولا تمكّن من الحفاظ على «بلوكٍ حديدي» قوامه أكثر من 14 ألف صوت في بيروت «لا تتزحزح» مهما «زاحت» الجمعيّة وتغيّر موقعها السياسي، إضافة إلى «بلوكات» ثابتة في كلّ الأقضية يتم توزيعها عادةً على طريقة الـ«شانتاج» أو لاعتباراتٍ أُخرى كما حصل مع النائب جان طالوزيان.

«لا تحالفات... بل تقاطعات»
يؤكد «الأحباش» أنّهم لم يخرجوا «من جلدهم»، بل «ملتزمون بقناعاتنا ولو دفعنا أثماناً»، وفق ما يشير القيادي في «الجمعيّة» ومسؤول حملتها الانتخابيّة أحمد دباغ الذي يؤكّد استمرار الاجتماعات الدوريّة مع حزب الله على مستوى قيادات الصف الأوّل، وكان آخرها منذ نحو شهر.
رغم ذلك، كلّ المعطيات تشي بأن التمايز عمّا كان يُسمّى «8 آذار»، وتحديداً الموقف من حزب الله، صار «فاقعاً»، إلى حدّ أن «الحزب» صار في المنزلة نفسها مع تيار المستقبل، وهي منزلة «الأصدقاء»، على حد قول دبّاغ لـ«الأخبار»، باعتبار أنّ «لا تحالفات حقيقيّة في السياسة الحالية، بل هي أشبه بتقاطعات في بعض الاستحقاقات والملفّات ومجموعة أصدقاء».
يُقرّ دبّاغ بأنّ نقاط الالتقاء مع حزب الله كانت أقوى في السابق، رافضاً في الوقت عينه الدّخول في الاعتراضات على مواقف الحزب وأدائه «لأننا لا نسمح لأنفسنا بأن نقوّم أي حزب».
الملف الرئاسي هو أكبر الأدلّة الملموسة على أنّ العلاقة بين الاثنين قطعت مرحلة «الطلاق البائن». لا يعترف دبّاغ بأنّ «البوانتاج» الذي احتسب أن صوتَي النائبين عدنان طرابلسي وطه ناجي سيصبّان لمصلحة المرشح سليمان فرنجية، قد أغضب «المشاريع» وفق ما تردّد. لكنه يحرص على تأكيد أن «الجمعيّة» لم تدرس بعد خياراتها وخصوصاً أنّ من يجري التداول باسميهما، أي فرنجيّة وقائد الجيش العماد جوزيف عون، لم يُعلنا بعد ترشّحهما، إلا أنّ المعايير التي وضعها «الأحباش» لمرشّح الرئاسة لا تنطبق على فرنجيّة إذا كان «مرشح تحدّ». إذ «لا يمكن أن نصوّت لمرشّح غير قادر على نسج علاقات عربيّة، وإلا سنُعيد مرحلة الـ 6 سنوات السابقة».
«المشاريع» لن تصوّت لمرشّح رئاسي من دون غطاء عربي


هكذا، تحسم «الجمعية» الشك باليقين، لتؤكّد أنّها لن تكون إلى جانب مرشّح حزب الله. لغة «الأحباش» بعد مسار فك التحالف واضحة بإشارة قيادييها إلى «أنّنا لسنا في جيب أحد ولن نكون». بالنسبة إليها «الثنائي الشيعي لطالما اعتبر أنّ الحريري هو الحليف الأقرب إليهما، بغض النّظر عن الأثمان التي دفعتها الأحزاب القريبة منهما».
هي إذاً سياسة «إدارة الظهر» التي يعتمدها حزب الله تُجاه حلفائه السنّة في المواقف السياسية وفي التعيينات والتوظيفات... أودَت إلى إخراج «الأحباش» من «جلبابه» إلى حد رفض الانضواء في لقاء سنّي يجمع نواب الثنائي: قاسم هاشم وينال الصلح وملحم الحجيري.
ينفي دبّاغ أن يكون رفضهم نابعاً من رفض نواب حزب الله وحركة أمل، بل «كل ما في الأمر أنّنا نُفضل تشكيل لقاء عابر للطوائف مثل اللقاء التشاوري الذي كان يرأسه الرئيس عمر كرامي». ومع ذلك، لا ينفي أن اللقاء التشاوري الذي فُعّل سنياً منذ سنوات لم يكن «تجربة ناجحة» باعتبار أنّ كثيرين كانت لديهم مرجعيّاتهم السياسيّة وكانوا ينتمون إلى كتلٍ نيابيّة أُخرى ممّا كان يُصعّب مسألة اتخاذ بعض القرارات.

لا زيارات رسميّة إلى دمشق
«نفضة التجديد» التي قام بها «الأحباش» لا يبدو أنّها تقتصر على الدّاخل، بل تشمل أيضاً العلاقة مع دمشق التي تبدو اليوم كأنها «مقطوعة». تقصّد قياديو «الجمعيّة»، مثلاً، توحيد معاييرهم في التعامل مع الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا أخيراً، فخرجوا من السفارة السوريّة باتّجاه السفارة التركيّة لأداء واجب التعزية بالضحايا. تعاملوا مع السوريين والأتراك على قدم المساواة، ولو أنّ قياديّيهم يتحدثون عن «رمزيّة سوريا والقرب الجغرافي وعلاقات المصاهرة التي تجمع البلدين...». لكن، فعلياً، لم تعد «الجمعية» هي نفسها التي حمل مناصروها السواطير رفضاً لبيان المطارنة الموارنة عام 2001 رفضاً لدعوة الجيش السوري الى الانسحاب من لبنان، الوفد النيابي الذي توجّه إلى سوريا أخيراً للقاء الرئيس السوري بشّار الأسد خلا من أي وجهٍ «حبشي»، علماً أن دبّاغ يؤكد «أنّنا لم نتبلّغ بذلك»، مشدداً على «ضرورة فتح قنوات التواصل بين الدولتين لحل العديد من المشكلات؛ وأبرزها ملف النازحين».

العلاقات العربية: صفحات جديدة
تُحاول «المشاريع» أن تنتهج سياسة «صفر أعداء» (باستثناء الكيان الصهيوني). هذا ما يبدو واضحاً في فتح صفحة جديدةٍ في العلاقات مع بعض الدول العربيّة، وفي مقدمها السعوديّة والإمارات العربيّة المتّحدة عبر بعض رجال الأعمال المغتربين والمحسوبين على «الجمعيّة». ببراغماتية، قفزت الجمعية عن كثير من اجتهادات وأدبيات مؤسسها الشيخ عبد الله الهُرري في كتاباته حول الفكر الوهابي والسلفي، نحو سياسة «تقليل الخصوم وزيادة الأصدقاء، من دون أن يكون قرارنا عند أحد». هذه العلاقات، يشير دبّاغ إلى أنّها على مستوى السفارات العربيّة في بيروت، فيما الزيارات إلى البلاد العربية ليست رسميّة. ويضيف: «هي علاقات صداقة من باب الانفتاح وجلب الأصدقاء إلى لبنان لأننا مُدركون أنّنا إذا لم نتعاون لن نتمكن من الخروج من الأزمة. ونحن نؤمن بعروبة لبنان ومتمسكون باتفاق الطائف».
لكن ذلك لم يمرّ دون خلافات داخل «الجمعيّة» بين مؤيّدي عمليّة إعادة التموضع ورافضيها ممن يُحبّذون البقاء في «المحور». رغم ذلك، لا تبدو هذه الخلافات «مرئية» للخارج الذي ينظر إلى «تنظيم حديدي» تبدو هيكليّته الإداريّة أشبه بـ«شبح». وهو ما ينفيه دبّاغ على أية حال بتأكيده «أن عمليّة إنضاج القرار في الداخل تتم بهدوء بين مجموعة من القياديين. ونقوم بالدفاع عن هذه القرارات بغضّ النظر عن رأينا الشخصي بها. وفي شأن علاقتنا بحزب الله، كلّنا متفقون على وجهة النظر عينها»، موضحاً «أن هيكليّتنا الإداريّة تختلف عن الأحزاب الأُخرى لأننا لسنا حزباً سياسياً، ولكن لنا هيكليّتنا الواضحة».