تُواصل البرازيل والأرجنتين تحضيراتهما لإطلاق عُملة مشتركة في ما بينهما، في أعقاب إعلان رئيسَي البلدَين، البرازيلي لويس إيناسيو لولا داسيلفا، والأرجنتيني ألبرتو فرناندز، نيّتهما اتّخاذ هذه الخطوة، التي تعود المفاوضات في شأنها، في الواقع، إلى سنوات خلت، قبل أن تَعمد برازيليا، تحت حُكم الرئيس اليميني، جايير بولسونارو، إلى تعليقها عام 2019. لكن وصول الرئيس اليساري، داسيلفا، إلى سُدّة الحُكم، أعاد إحياء تلك المفاوضات، لتبدأ وزارة ماليّته، بقيادة فرناندو حداد، دراسة خياراتها في هذا المجال، علماً أن حداد دأب على التنظير لإمكانية أن يؤدّي إنشاء عملة موحّدة في أميركا الجنوبية إلى «تسريع التكامل الإقليمي». على أن ما يستحثّ خطوة برازيليا وبيونس آيرس، الآن، إنّما يتمثّل بالنسبة إلى الأخيرة في النقص «الدولاري» الحادّ الذي تعانيه، والذي يفرض عليها السعي لإيجاد «نقدٍ» بديل يمكّنها من تسوية التزاماتها وإتمام العمليات التجارية مع جارتها، فيما بالنسبة إلى الأولى، تكمن أهمّية ذلك القرار في إفادة محاولات داسيلفا استعادة مكانة بلاده التقليدية في محيطها الحيوي. وعلى رغم ما تَقدّم، لا تنعدم التقديرات المتفائلة بإمكانية أن تؤدّي تلك المبادرة المحصورة الآن في ما بين القوّتَين الرئيستَين في كتلة التجارة الإقليمية «ميركوسور» - تضمّ أيضاً باراغواي وأوروغواي -، إلى ولادة ثاني أكبر اتّحاد نقدي في العالم، بعد الاتحاد الأوروبي الذي يتّخذ من اليورو عملة موحّدة له.
مخاوف برازيلية
ستتيح العُملة الجديدة، التي أُطلق عليها اسم «SUR» أي الجنوب، تقليص الدولارات الاحتياطية المدفوعة لقاء العمليات التجارية بين البلدَين، والتي كانت وصلت إلى أكثر من 26.4 مليار دولار في أوّل 11 شهراً من العام الماضي، بزيادة تُقارب 21% عن الفترة نفسها من عام 2021. على أن الميزان التجاري البَيني سجّل عجزاً أرجنتينياً بنحو 2.2 مليار دولار خلال عام 2022، وفق ما نقلتْه وسائل إعلام برازيلية، وهو ما يثير مخاوف اقتصاديين برازيليين من أن يكون المشروع عبارة عن مساعدة برازيلية لبيونس آيرس، ليس إلّا. وممّا يضاعف تلك المخاوف، حقيقة أن الأرجنتين غارقة في الديون والتضخّم الذي وصل فيها إلى أكثر من 95% في عام 2022، وفق وكالة «بلومبرغ»، الأمر الذي يحفّز القلق من ربْط أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، باقتصادها، وبالتالي احتمال تراجُع الأوّل من جرّاء ذلك. ويُضاف إلى ما تَقدّم، فشل اختبار الوحدة الاقتصادية في أميركا اللاتينية، وفق ما أظهرتْه تجربة «ميركوسور»، التي اعترتْها صعوبة بالغة في تقسيم الأعباء، خصوصاً بالنظر إلى تفاوت أحجام اقتصادات الدول المنخرطة فيها.
وفي هذا الإطار، ترى الخبيرة الاقتصادية، أدريانا دوبيتا، في تحليلٍ نشرتْه وكالة «بلومبرغ» بنُسختها البرتغالية، أن «هذا النوع من المبادرات يكون منطقياً فقط عندما تكون البلدان مستقرّة»، مضيفةً أنه «حتّى قبول العملة دولياً يتطلّب استقراراً مالياً، وهو الأمر المفقود أصلاً بالنسبة إلى العملات الأساسية، أي البيزو والريال». وتتساءل دوبيتا: «من سيُصدر هذه العملة؟ ماذا ستكون المعايير؟ هل سيكون هناك تنسيق للسياسة النقدية والمالية؟ أم أن المسألة مجرّد وجود عملة وسيطة، بخلاف الدولار»، مشدّدة على ضرورة الإجابة على تلك التساؤلات قبل اتّخاذ أيّ إجراءات. وفي محاولة لتبديد تلك الشكوك، أعلن وزير الاقتصاد الأرجنتيني، سيرخيو ماسا، في حديث صحافي، أنه «ستتمّ دراسة المعايير اللازمة للعملة المشتركة»، بما يشمل القضايا المالية وحجم الاقتصاد ودور البنوك المركزية.
إنشاء أيّ عملة مشتركة يتطلّب تكاملاً وتنسيقاً كافيَين في ما بين أطرافها


أيّ مستقبل؟
على رغم تلك الشكوك والصعوبات، يبدو أن ثمّة تطلّعاً إلى أن تتوسّع الخطوة البرازيلية - الأرجنتينية، في حال نجاحها، لتشمل بقيّة دول القسم الجنوبي من القارّة في السنوات المقبلة، علماً أن «اتّحاد دول أميركا اللاتينية» (UNASUR) كان أطلق، منذ عام 2008، مبادرة مماثلة لتعزيز التكامل بين أعضائه، مِحورها إنشاء عملة مشتركة على غِرار «اليورو». غير أن التحدّيات التي واجهتْها القارّة مذّاك بدءاً من الأزمة المالية العالمية عام 2008، من ثمّ إطاحة داسيلفا من الحُكم عام 2011، وصولاً إلى صعود اليمين الشعبوي في غير دولة، أدّت تدريجياً إلى تهشيم تلك المبادرة. ومن هنا، يُشكّك أستاذ القانون الدولي في جامعة «Getúlio Vargas» البرازيلية، سالم ناصر، في إمكانية توسّع المشروع المشترك بين برازيليا وبيونس آيرس، واصفاً إيّاه بـ«الرمزي والمحدود». ويوضح ناصر، في حديث إلى «الأخبار»، أن «هدف لولا من هذه الخطوة، هو إعادة التشديد على التضامن والوحدة اللذين كانا قائميْن في أميركا اللاتينية ما قبل عام 2008»، معتبراً أنه «في حال تفعيل هذه المبادرة، ستكون أقرب إلى الإيكو (ECU)»، وهي عملة أوروبية موحّدة اعتُمدت ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، قبل اعتماد «اليورو» رسمياً. ويَلفت إلى أن توحيد العملة في أوروبا «برهن في بعض الأحيان على أن هناك حدوداً للإنجازات على عكس ما يُشاع»، مستذكراً في هذا السياق الأزمة اليونانية، ومِن بَعدها الأزمة الإسبانية، وغيرهما، مضيفاً أن التجارب المذكورة «ولّدت مخاوف لدى البنوك المركزية في الدول الأخرى، لجهة التخلّي عن قدراتها على صناعة السياسة النقدية في بلدانها».
يُضاف إلى ما تَقدّم، أن إنشاء أيّ عملة مشتركة يتطلّب تكاملاً وتنسيقاً كافيَين في ما بين أطرافها، وهو ما لا يبدو متوافراً في أميركا الجنوبية. وفي هذا الإطار، تُبيّن أستاذة القانون في جامعة «ESSCA» الفرنسية، كاميلا فيلارد دوران، أن من شروط نجاح هذا المشروع «تحسين مستوى الثقة السياسية والاقتصادية بين الدول اللاتينية»، معتبرةً أن «لولا يستطيع توفير الدافع السياسي المطلوب، لكنه لا يزال بحاجة إلى أن يكون ذا مصداقية أكبر في المستقبل المنظور». وإذ تُعرب دوران، في حديث إلى «الأخبار»، عن اعتقادها بأن خطوة برازيليا وبيونس آيرس «لا تنفصل عن سياق الخروج من الهيكل الدولي المالي» الحاكم، والذي كانت بدأت «الاقتصادات الناشئة» مُنافسته منذ العقد الأوّل من القرن الحالي بحسبها، لافتةً إلى أن إضفاء الطابع المؤسّساتي على التعاون النقدي في ما بين تلك الاقتصادات، وذلك من خلال سنّ النُّظم وإنشاء المؤسّسات المشتركة، «يوفّر إطاراً يمكّنها من ضمان استمرار الوصول إلى الأموال الدولية لتسوية التزاماتها عبر الحدود». على أن دول أميركا اللاتينية لا تزال بحاجة إلى الكثير من العمل في هذا المجال، خصوصاً لناحية تحسين بيئتها الاقتصادية والقانونية، واعتماد تقنيات جديدة لإنشاء هيئات إقليمية أكثر قوّة. ومن هنا، تنصح دوران بالاستلهام من التجربة الصينية التي «تُعلّمنا درساً رئيساً: سيكون العالم مجزّأً أكثر فأكثر»، مشدّدةً على أنه «حان الوقت للعمل على بناء المرونة النقدية والاستقلالية النقدية في أميركا اللاتينية... قيادة لولا مهمّة، لكن الأفكار البرازيلية والأرجنتينية لا تزال بحاجة إلى التعزيز». والجدير ذكره، هنا، أن العديد من البلدان المصنَّفة في ما يسمّى «عالم الجنوب» بدأت، في السنوات الأخيرة، تعزيز مساعيها لتقليل اعتمادها على الدولار، عامِدةً إلى إنشاء أنظمة ومؤسّسات مالية وبُنى دفْع جديدة، وتطوير عملات بديلة والحضّ على استخدامها في التجارة والاستثمار. وعلى رغم أن فاعلية هذه المبادرات لا تزال ضبابية، إلّا أن الأكيد أنها تشقّ طريقاً سيشكّل صداعاً حقيقياً للولايات المتحدة وهيمنتها العالمية.