ثبتت بالعين المجرّدة عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان في 14 شباط المقبل في زيارة ستمتدّ لثلاثة أيّام لإحياء الذكرى السنويّة الـ 18 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن من دون مهرجان جماهيري. حسْمُ رئيس تيار المستقبل للزيارة جاء مع إطفاء الشمعة الأولى لابتعاده عن الحياة السياسية وهجرته «الطوعيّة» عن بيروت.سنةٌ كاملة اقتنع فيها بأن يكون «بيزنس مان» بعدما نزع عن نفسه صفة الرجل السياسي ورئيس حكومة لبنان. وفضّل أن يُفرّغ وقته بالكامل لمتابعة أعمال شركاته ويكتفي بإحاطات سياسيّة عن بُعد ومن خلال الإعلام. يقول مقربون منه إنّ الاتصال ببيروت يقتصر على استيضاح بعض الأمور التي تكون بالنسبة إليه غير واضحة في الإعلام، ولكنّه لا يُتابع عن كثب «الصغيرة والكبيرة». وحتى إن الاتصال بالقياديين في «المستقبل» مقطوع. وحده هاتف «العمّة» يستقبل الاتصالات الإماراتيّة، إذ إنّ العلاقة بين سعد وبهيّة فيها شيء من السياسة والكثير من العواطف. ومع كلّ الانتقادات لديه على أداء الأمين العام لـ«المستقبل» أحمد الحريري خلال فترات غيابه عن «بيت الوسط» ولا سيّما في فترة الانتخابات النيابيّة، إلا أنّ التواصل لم ينقطع.
أمّا التواصل الأبرز من خارج العائلة، فيبقى مع الرجل الأقرب إلى دائرته حالياً: أحمد هاشميّة. جدول أعمال رئيس جمعية «بيروت للتنمية الاجتماعية» الموجود حالياً في الإمارات. اللقاءات بين الرجلَين دوريّة لمتابعة المساعدات التي يُديرها هاشميّة. والأخير يُحاول إحياء المؤسّسات الحريريّة التي كانت تدرّ المعونات الماليّة إلى «البيارتة» في «أيّام العزّ». صحيح أنّ ابن طريق الجديدة يقف في مساعداته عند الحدود الإنسانيّة - الاجتماعيّة، إلا أنّ نكهة السياسة لا تغيب عنها تماماً كلقاءاته بالحريري الذي يُطلعه على ما يجري خلف الكواليس.
على مدار سنة كاملة، حاول الحريري أن يكون سياسياً بمقوّمات الحد الأدنى. وراح يتنقّل بين العواصم كرجل أعمال من دون أن تطأ قدماه بيروت إلا في الذكرى السنويّة الـ 17 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي أصرّ فيها على «الصوم» عن الكلام السياسي والاكتفاء بقراءة الفاتحة عند الضريح. وعلى ما يبدو، فإنه هذا العام سيُعيد الكرّة. إذ إنّ فمه السياسي مليء بالماء السعودي ولا قدرة لديه على مجابهة «فيتو» المملكة المرفوع في وجهه. يسير «أبو حسام» بين النقاط المرسومة له سلفاً. ما دام قرار «طويل العمر» بأن يبقى في مقر إقامته في أبو ظبي، سيبقى هناك معتكفاً عن الحياة السياسيّة.
طائرة الحريري التي ستحطّ في بيروت ستعود خالية الوفاض إلا من صور لجمهورٍ سيتداعى إلى الضريح ليهتف باسم «سعد سعد سعد». الحريري برفقة «الست بهيّة» سيلوّحان للمحبّين، قبل أن يعود الجميع إلى بيته خائباً. لا جمهور تيار المستقبل قادر على إصلاح ما تم تخريبه على مدى سنوات بعد التنازلات التي يعتبر أنّ زعيمه قدّمها، ولا رئيس «المستقبليين» يستطيع إعلان موقفٍ بالتراجع أو حتّى التقدّم.
شيءٌ واحدٌ سيُحاول الحريري أن يفعله: لمّ شمل تيار المستقبل، ولو أنّه يعلم تماماً أنّها مهمّة مستحيلة لاعتبارات خارجيّة مرتبطة بانقطاع حبل السرّة مع المملكة، وداخليّة مع عجزه عن إجراء «نفضة» حقيقيّة يكون أحمد الحريري على رأسها ومع انزواء النخب التي كانت تؤيده أو هجرتها إلى أحزابٍ أُخرى.
هذا ما يبدو جلياً داخل تيار المستقبل: القيادة غائبة عن السّمع حتّى إنّه يستحيل على الجمهور إيجاد موقف واحد لها عن القضايا الاجتماعيّة والمعيشيّة والنقابيّة. أعضاء المكتب السياسي في «كوما»، والقيادة التنفيذيّة ليس لديها الجرأة على إعلان موقف سياسي طالما أنّ رئيسها معتكف أصلاً.
يُدرك الحريري عجزه عن القيام بـ«نفضة» حقيقية داخل «المستقبل» بغياب الغطاء والموقف السياسي


إذاً، هو عصر الاضمحلال السياسي الذي تعيشه قيادة «التيّار الأزرق» ونخبه. تتفرّج على المسرح من دون أن يكون لها الحق باعتلائه أو حتّى التدخّل في كواليسه. الهزائم التي مُنُوا بها خلال هذا العام ولا سيّما في الاستحقاقات السنيّة، أشبه بضربات قويّة «على الرأس»، وبقاء الحريري في وجدان جمهوره لا يكفي للإبقاء على شعبيّته دهراً.
صحيح أن هذه القيادات ستلبي دعوة الحريري إلى بيت الوسط فوْر وصوله، ولكن بغياب الغطاء العربي - الدولي والموقف السياسي أو أي تطوّر دراماتيكي في المرحلة الحاليّة، وأكثر من ذلك بغيابه عن الأرض وانقطاع «الدولار» عن جيوبهم، ستنتهي الزيارة بكليشيهات وشعارات لا تسمن أو تغني من جوع.
يُدرك الحريري ذلك جيّداً، إلا أنّه مصرّ على أن يملأ جدول أعماله في الأيام الثلاثة بلقاءات مكوكيّة مع كل قيادات «المستقبل». وبحسب المعلومات، فإنّ التحضيرات ستتركّز على أن تكون لرئيس «التيّار» اجتماعات مع قدامى المستقبل، وشخصيّات تُعدّ مقرّبة منه ولا تنتمي إلى «التيّار».
رغم ذلك، ستنتهي هذه اللقاءات تماماً كلقاء «دولته» مع جمهوره عند الضريح؛ كلٌ سيعود إلى عزلته، وصور تُرمى في الأرشيف من دون أن تُغيّر من الواقع المرير لـ«المستقبل» أو حتى البناء عليها في المستقبل.