يُنتظر أن تنال حكومة بنيامين نتنياهو، اليوم، ثقة «الكنيست» الإسرائيلي بأغلبية معتدٍّ بها، لينفتح بذلك عهد «الملك بيبي» الجديد، والذي لا يُتوقّع أن يخلو من الخلافات والانقسامات والأزمات، الداخلية والخارجية على السواء. وعلى رغم المبالغات التي تنطوي عليها طموحات هذه الحكومة، وتقديرات خصومها أيضاً لِما يمكن أن يسفر عنه أداؤها، إلّا أن الأكيد أن الفاشية الصاعدة في دولة الاحتلال لن تتردّد في اقتناص الفرصة التي أتيحت لها من أجل إنفاذ آيديولوجيتها، إنْ لناحية التنكيل بالفلسطينيين والعمل على اقتلاعهم من أرضهم، أو لناحية السعي إلى إرساء حُكم تلمودي تجاه «الأغيار»... كلّ «الأغيار» بلا استثناء. على أن هذه المساعي لن تبقى من دون ردود مضادّة، بل هي ستستتبع «مقاومة» من قِبَل الأطراف المستهدَفين، ستتحدّد بناءً على مدى قوّتها نتيجة هذا الصراع، الذي يظلّ احتمال تطوّره إلى حرب على مستويات مختلفة، سواءً بيْنية داخلية أو مع الفلسطينيين، قائماً
يُفترض برئيس الحكومة الإسرائيلية المكلَّف، بنيامين نتنياهو، أن ينال ثقة «الكنيست» اليوم، بأغلبية معتدٍّ بها نسبياً، بعد أن تَوصّل إلى إرضاء شركائه من الأحزاب اليمينية والدينية على اختلافها، ليتسلّم في أعقاب ذلك رئاسة حكومة يُقدَّر أن يكون عمرها قصيراً ومشبَعاً بالخلافات بين مكوّناتها، والأزمات على اختلافها: الأمنية والاقتصادية والخارجية، وأيضاً الانقسامات الداخلية التي باتت مادّة تحذير من أن تتسبّب بالأسوأ، إذ ستحاول هذه الحكومة إنفاذ إيديولوجيّتها، القائمة في جانب منها على تعميق الإضرار بـ«الآخر»، سواء أكان يهودياً أم من «الأغيار» أم ممّا «دون مستوى البشر» وفقاً لعقائد مسيحانية عنصرية لدى أحزاب «الصهيونية الدينية». ومع هذا، فإن مرحلة «خراب إسرائيل» التي يحذّر منها اليهود أنفسهم، أو «الحرب الأهلية الثانية» كما يسمّيها خبراء ومختصّون في الكيان، أو ما يَروج من فرضيات عن تسليط عقوبات دولية على إسرائيل أو قطْع العلاقات معها على خلفية ممارساتها الفاشية المتوقّعة، تبدو أقرب إلى سيناريوات مبالَغ فيها، وإنْ كانت تستند في جوهرها إلى وجود بذور لتَحقّق هكذا سيناريوات، لم تتحقّق مقدّماتها حتى الآن.
ولعلّ مردّ تلك المبالغات هو ارتفاع سقف التوقّعات لدى كلّ من الحكومة العتيدة ومُعارضيها وأعدائها على السواء، على رغم وجود واقع صلب يتعذّر عليها تجاوُزه أو في الحدّ الأدنى الإسراع في تجاوُزه، وهو ما سيؤدّي ليس إلى خيبات أمل فقط، بل إلى ارتدادات سلبية على الاستراتيجيات المقرَّرة نفسها، خصوصاً أن التجارب تثبت أن الشخصيات التي تجلس على كُرسيّ المسؤولية، هي غيرها التي كانت خارجها، الأمر الذي لا تُستثنى منه إسرائيل وشخصيّاتها السياسية. وعلى أيّ حال، يمكن، عشيّة محْض حكومة نتنياهو الثقة، تسجيل الملاحظات الآتية:
أوّلاً: تمكّن حزبا الفاشية الإسرائيلية، وهما «قوّة يهودية» برئاسة إيتمار بن غفير و«الصهيونية الدينية» برئاسة بتسلئيل سموتريتش، من النجاح نسبياً عبر انتزاع مناصب وصلاحيات، كانت حتى الأمس القريب حلماً بالنسبة إليهما. ويظنّ الحزبان أنهما بهذه المناصب والصلاحيات سيتمكّنان سريعاً من إلحاق الضفة بإسرائيل، واقتلاع الفلسطينيين وطردهم، وكذلك التسريع في تغيير نظام الحُكم ليكون حُكماً تلمودياً بديلاً. على أن هذه المطامح تبدو مُغالية في «تفاؤلها»، وهو ما سيقلّل من أيّ نتيجة «إيجابية» يمكن أن تُحقّقها، سواء في وجه الفلسطينيين أو في وجه العلمانيين والتقليدييين من الإسرائيليين أنفسهم. ومع ذلك، فإن «الصهيونية الدينية» لن تتردّد في محاولة تنفيذ مشاريعها، الأمر الذي سيستتبع ردود فعل من الأطراف المستهدَفة، ضمن معركة طويلة نسبياً، قد تمتدّ لتتحوّل إلى حرب على مستويات مختلفة، سواء بيْنية داخلية، أو مع الفلسطينيين. أمّا نتيجة هذه المعركة، فمرتبطة بطبيعة الردود المُشار إليها: فإنِ التزم الفلسطينيون الصمت أمام «الشهيّة المرتفعة» للفاشيين، فسيتمكّن هؤلاء من تهشيم المزيد من الحقوق الفلسطينية، والعكس بالعكس. والأمر نفسه ينسحب على الساحة الداخلية، حيث سيحدّد التقليديون والعلمانيون من اليهود مصير الطموح إلى إرساء نظام توراتي ساديّ تجاه «الأغيار». وبالنسبة إلى الساحة الخارجية، فردّة الفعل الغربية، وتحديداً الأميركية، مرتبطة بتداعيات السياسات الفاشية المتوقّعة؛ فإنْ أدّت إلى تصعيد يربك السياسات الأميركية في فلسطين وخارجها، فسيكون التفاعل متناسباً مع مطلب منْع إسرائيل من المضيّ قُدُماً في هذا الاتّجاه، أمّا إنْ لم تتسبّب بتصعيد أمني أو إحراج سياسي، فسيقتصر التفاعل على الكلام، ولن يتجاوزه.
تبدو إسرائيل مُقبلةً على تحدّيات غير سهلة، ستَتحدّد بناءً عليها وُجهة «الدولة» وتموضعها بين مصالح مكوّناتها


ثانياً: في خضمّ المشهد الإسرائيلي المقبل، تَبرز أيضاً الأحزاب «الحريدية» التي تَجد بدورها الفرصة سانحة لتغيير «الوضع القائم»، وتحصيل مزيد من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية، ومن بينها عطاءات مالية ستكون ثقيلة جدّاً على الاقتصاد الإسرائيلي، وكذلك إلغاء قوانين إصلاحية أقرّتها الحكومة السابقة، وفي المقابل إقرار الكثير من القوانين التي يراها العلمانيون مُوجَّهة ضدّهم. وكما هو الحال مع التهديد الأول، فإن مآل التهديد الثاني سيكون مرتبطاً بردّة فعل الأطراف المستهدَفين، وخصوصاً العلمانيين والتقليديين الذين يشكّلون الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين، ويرفضون ليس فقط تغيير أسلوب عيْشهم، بل والتعايش وإنْ عن بُعد مع المتديّنين. ووفقاً لردّة الفعل تلك، ستتحدّد النتيجة النهائية لهذا الصراع، الذي لن ينتهي في زمن هذه الحكومة أو التي تليها، بل سيَبقى ويمتدّ بين أخذ وردّ، مع ما ينطوي عليه من تبعات على مستقبل الدولة اليهودية.
ثالثاً: يمنّي نتنياهو، الذي يمكن وصفه بـ«ثعلب السياسة» الإسرائيلية، نفسه بإمكانية تحقيق مكسب شخصي طالما عمل عليه، هو الإفلات من الملاحقة القضائية بتُهم تلقّي رشًى وفساد، والتي من شأن استمرارها أن ينهي حياته السياسية الطويلة ذليلاً في السجون. وتلقّى نتنياهو، بالفعل، مقابل تنازلاته لشركائه، وعوداً بسنّ قوانين أو إجراءات من شأنها إسقاط الملاحقة عنه، وهو ما سيحرّره لاحقاً من عبء ثقيل طالما قلّص قدرته على المناورة السياسية في الداخل، وعرّضه للابتزاز السياسي. وإذ يدرك نتنياهو أن انتصار معسكره في الانتخابات الأخيرة قد لا يتكرّر، كوْنه نَتج بالدرجة الأولى من فشل المعسكر المعارض له في إدارة المعركة الانتخابية، فإن ذلك يدفعه إلى التشبّث بالفرصة المُتاحة له، مع الإشارة إلى أنه في حال وصلت الخلافات المحتمَلة بينه وبين شركائه في الائتلاف الجديد إلى مرحلة إسقاط الحكومة، فسيبقى هو على كرسيّ رئاستها طويلاً، إلى أن ينجح معارضوه بعد أشهر طويلة، أو انتخابات متكرّرة، قد لا تسفر بدورها عن منتصرين، ليبقى هو في سدّة الحكم.
رابعاً: قد يكون «العاقل» الوحيد في هذه المعمعة، هو المؤسّسة الأمنية، التي تسعى إلى أن تكون بمثابة «فلتر» للقرارات المنويّ اتّخاذها، وذلك لمنع التسبّب بتهديدات تدرك مسبقاً أنها ستكون مرتفعة إنْ لم يجرِ كبحها في بدايتها. على أن هذا المسعى لن يقتصر على الساحة الفلسطينية التي تتوقّع الاستخبارات الإسرائيلية أن تشهد تصعيداً لا يؤمن إفضاؤه إلى الإضرار بالمصالح الأمنية للاحتلال، بل سيشمل أيضاً الساحة الداخلية الإسرائيلية حيث شهيّة الفاشيين مرتفعة لفرض إرادتهم على المخالِفين. أيضاً، يُقدَّر أن تعاني الأجهزة الأمنية من تَعارض مصالح وتَشابك مسؤوليات تتسبّب بهما الاتفاقات الائتلافية، التي وضعت سلطة إصدار القرارات الواحدة بِيد أكثر من جهة، وخاصة صلاحيات وزارة الأمن التي توزّعت بين وزيرَين، وأعطت «الصهيونية الدينية» سلطة شبه مطلقة في الضفة الغربية، تتعارض مع نفوذ الجيش التقليدي في هذه المناطق.
بالنتيجة، تبدو إسرائيل مُقبلةً على تحدّيات غير سهلة، ستَتحدّد بناءً عليها وُجهة «الدولة» وتموضعها بين مصالح مكوّناتها، التي تتعارض إلى حدّ تهديد «الهوية» كما هي عليه الآن. مع ذلك، فإن التهديد لم يصل بعد إلى حدّ وقوع الاحتراب الداخلي، أو بداية الزوال، أو اضمحلال القدرة والسطوة أمام التهديدات الخارجية - وهي الأهمّ من منظور استراتيجي -، من دون أن ينفي هذا حتمية ترتّب تبعات على السياسة «الإقصائية» التي ستنتهجها حكومة نتنياهو في الداخل الإسرائيلي.