لا تزال المصالحات التي بدأتها تركيا في عام 2022، تحتاج إلى استكمالها في العام الجديد، خصوصاً وأن رئيسها، رجب طيب إردوغان، يعوّل عليها لتعويض بعض شعبيّته ولتعزيز حظوظه في انتخابات رئاسية غير مضمونة النتائج. ولمّا كانت أنقرة أبْلت بلاء حسناً في الأزمة الأوكرانية، بسبب موقف الحياد والسياسة المتوازنة الذين اتّبعتهما تجاه طرفَي الصراع، ومساعيها للتوسّط في حلّه، إلّا أن المصالحات التي حقّق بعضها اختراقات كما في حالة السعودية والإمارات، أو تلك التي تنتظر نضوجها، كعودة الودّ التركي مع مصر وسوريا، لم تُحقّق المراد منها، إذ لم تنعكس إيجاباً على الاقتصاد التركي الذي لا يزال يرزح تحت واحدة من أسوأ أزماته، فيما لم تستعِد شعبية إردوغان وهجها بعد
إذا كان عام 2022 عامَ اكتمال المصالحات مع بعض الدول مِن مِثل السعودية والإمارات وإسرائيل، ومحاولات رأب الصدع مع أخرى كمصر وأرمينيا وسوريا، يُفترض بعام 2023 أن يَحمل استكمال هذه المصالحات، لكنه قد لا يشهد، على أيّ حال، أيّ اختراق في العلاقات مع اليونان أو قبرص. على أن الأزمة الأوكرانية طبعت سياسة أنقرة الخارجية بطابع استثنائي، ومنحتْها «علامة جيّدة» كتلك التي تُمنح للطلبة المتفوّقين في المدارس. فقد كانت هذه الأزمة بمثابة امتحان صعب لتركيا ولرئيسها، رجب طيب إردوغان، الذي أبْلى بلاء حسناً في واحد من أعقد الصراعات التي تُواجهها بلاده، ولا سيما أن الحرب ليست مجرّد صراع بين روسيا وأوكرانيا، بل بين الأولى و«حلف شمال الأطلسي»، الذي يضمّ تركيا في عضويّته. ومنذ اللحظة الأولى لانفجار الحرب في 24 شباط 2022، اتّبعت أنقرة سياسة متوازنة تجاه الطرفَين، محتفظةً بعلاقات مباشرة مع الرئيسَين فلاديمير بوتين، وفولوديمير زيلينسكي. وهي عمِلت بكلّ جهد ومثابرة على محاولة التوسُّط بينهما لإنهاء النزاع، وتبنّت في الوقت نفسه، بعض مواقف «الناتو»، في ظلّ مُراعاتها مصالحها - ولا سيما الاقتصادية - مع روسيا. ومع أن المَيْل التركي كان أكثر رجحاناً إلى روسيا، غير أن الغرب لم يكن ممتعضاً كثيراً من موقف حليفته الأطلسية؛ إذ ظلّت أنقرة تزوّد كييف بالسلاح، فيما لا يمتلك رُعاة الثانية، راهناً، ترف خسارة دولة كتركيا.
وتُعدّ تركيا المعنيّ الأوّل بهذه الحرب، كوْنَ الأخيرة تجري بين دولتَين تنتميان إلى حوض البحر الأسود، حيث هي الأب والراعي والممسِك بتلابيب اتفاقية تنظيم المرور في مضيقَي البوسفور والدردنيل، أو ما يُعرف بـ«اتفاقية مونترو» التي وُقّعت عام 1936، في عهد مؤسّس تركيا، مصطفى كمال أتاتورك. ولذلك، وبعد تردُّد، فرضت أنقرة منْع مرور السفن الحربية التابعة للبلدَين عبر المضائق، حتى لا تتعرّض للانتقادات أو المطالَبة بتعديل الاتفاقية، ولا سيما من جانب الولايات المتحدة الساعية لتعميق نفوذها في هذه المنطقة. ولعلّ من أهمّ نتائج الحياد التركي، نجاح هذا البلد في ترتيب اتفاق نقل الحبوب الأوكرانية إلى العالم عبر المضائق التركية، ووساطته في أكثر من اتفاق لتبادل الأسرى بين الروس والأوكرانيين. والأهمّ ربّما من كلّ ما تَقدّم، أن السياسة المتوازنة لأنقرة بين موسكو وكييف، حظيت بتأييد المعارضة التركية ودعْمها.
وقبل بدء الحرب في أوكرانيا، بادرت تركيا إلى مصالحات مهمّة ومفاجئة مع دول كان يُعتبر مجرّد الحديث عنها من المحرّمات، ومنها الإمارات المتّهَمة من جانب أنقرة بتدبير وتمويل محاولة الانقلاب في عام 2016، إذ مدّت تركيا يد المصالحة إليها، وجرى تبادل الزيارات بينهما على أعلى مستوى. كما مدّت يدها لمصالحة السعودية، حين قرّرت طيّ صفحة جمال خاشقجي، وتسليم ملفّ اغتياله نهائيّاً للرياض. ولعلّ الدافع الأوّل إلى تلك المصالحات، هو توقُّع تركيا أن تُقابَل «تنازلاتها» بمساعدات مالية من الدولتَين الخليجيتَين الغنيتَين، تحدّ من التدهور المخيف لاقتصادها، وتأثيراته على شعبيّة إردوغان المتّجه إلى انتخابات رئاسية غير مضمونة النتائج. إلّا أنه لا يُعرف على وجه الدقّة، حتى الآن، مدى استجابة السعودية والإمارات لتوقّعات تركيا، التي لا يزال اقتصادها يرزح تحت إحدى أسوأ أزماته.
بدا أن أنقرة تُقارب الملف السوري كما لو أنه شبيه بملفّات الخلاف مع السعودية والإمارات وإسرائيل وحتى مصر


وفي الإطار نفسه، بدت «المصالحة» التركية مع إسرائيل متردّدة وبطيئة، ولكنها نجحت أخيراً، وتبادَل الجانبان السفراء، فيما كان الميزان التجاري يقترب من العشرة مليارات دولار سنوياً، متجاوِزاً الميزان التجاري لتركيا مع إيران، على سبيل المثال. وكلّ ذلك من أجل أن تضغط تل أبيب على واشنطن لتخفّف من ضغوطها على الاقتصاد التركي. ولكن لا يبدو، حتى الآن، أن هذه الخطوات آتت أُكُلها؛ فالعلاقات التركية - الأميركية تزداد سوءاً كلّما ازداد التقارب التركي من روسيا، وكلّما فكّرت أنقرة في ضرْب «قسد» في شرق الفرات في سوريا، والتي تَعتبرها واشنطن أداتها الضاربة لمحاربة «داعش»، وحتى لمواجهة النفوذ الإيراني في هذا البلد. أمّا البلد الرابع على قائمة المصالحات التركية، فهو مصر، التي على رغم كونها الدولة الأولى التي سعت تركيا إلى مصالحتها، إلّا أن نتائج جهودها تأخّرت، بل انتكست مع توقيع أنقرة اتفاقية التنقيب عن النفط والغاز مع حكومة طرابلس، والتي اعتبرتْها القاهرة تهديداً لأمنها القومي، وضربة لجهود المصالحة، لتندفع تالياً إلى تكثيف التعاون مع اليونان وقبرص، والعمل من جديد على عزْل تركيا من التعاون في شرق المتوسط. وترى القاهرة أن أنقرة لم تفِ بوعودها بقطع علاقاتها مع تنظيم «الإخوان المسلمين»، في حين لا يُعرف ما إن كانت المصافحة العابرة بين إردوغان ونظيره عبد الفتاح السياسي، في افتتاح «مونديال قطر»، ستنعكس تعزيزاً للمصالحة أم لا.
يبقى أن آخر المفاجآت في السياسة الخارجية التركية، كانت محاولة التقارب مع سوريا، والتي بدا أن أنقرة تُقاربها على النحو نفسه الذي تعالج به ملفّات الخلاف مع السعودية والإمارات وإسرائيل وحتى مصر، وهو ما لا يبدو واقعيّاً. ومنذ تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، في مطلع آب الماضي، حول الرغبة في الحوار والمصالحة مع دمشق، توالت المواقف التركية على أعلى مستوى، وآخرها إبداء إردوغان رغبة في عقْد لقاء ثُلاثي يجمعه إلى الرئيسَين فلاديمير بوتين وبشار الأسد. غير أن هذه التصريحات لم تكن على الموجة نفسها لجهة تناقضاتها. وفي جميع الأحوال، وبعد خمسة أشهر منها، لم يتحقّق شيء سياسي حتى الآن، فيما قد تكون أنقرة فوجئت بالموقف السوري الرافض للتجاوب مع الرغبة التركية، من دون وضع خريطة طريق واضحة ودقيقة وجديّة، وبعيدة من الاستهلاك المحلي، ومساعي إردوغان لـ«ترييح» نفسه في الطريق إلى الانتخابات، خصوصاً عبر التخلّص من عبء اللاجئين السوريين، الذين تعكس الاستطلاعات والوقائع الأضرار التي أصابت شعبيّة الرجل من جرّاء وجودهم. إلّا أنه حتى الآن، لم تُقدّم تركيا أيّ تعهّدات أو التزامات لتلبية ولوْ بعضٍ من شروط دمشق، مِن مِثل الانسحاب من سوريا، ووقْف دعْم المنظّمات المعارضة في إدلب ومناطق الاحتلال التركي، فيما لا يُتوقّع أن تشهد الفترة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية، تقدُّماً جديّاً على طريق المصالحة، بالنظر إلى أن الملفّ مثقَل بالمشكلات المعقّدة والكبيرة وبتعدُّد اللاعبين الإقليميين والدوليين، كما مكبَّل بقِصر تلك المدّة. وفي الوقت نفسه، ستستمرّ المحاولات التركية لتحقيق «إنجاز» عسكري ضدّ الأكراد في سوريا، بهدف تعزيز صورة إردوغان بوصْفه القائد المُدافع عن الأمن القومي التركي، وبالتالي إنعاش شعبيّته عشيّة الرئاسيات، وهو ما لا تشذّ من سياقه العمليات العسكرية التركية التي تتواصل بالزخم نفسه لضرْب معاقل مُقاتلي «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، وسط محاولة من جانب أنقرة لإقامة منطقة أمنية متّصلة جغرافيّاً في داخل أراضي الجار الجنوبي الشرقي على امتداد الحدود التركية.
من جهة أخرى، شكّل عام 2022 عامَ ظهور التوتُّر في العلاقات التركية - الإيرانية، التي لم تشهد خلافات مهمّة منذ سنوات. والسبب الرئيس في تلك التوتّرات، يعود إلى الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، والتي أسفرت عن هزيمة يريفان، وعن اتفاقية تُعزّز النفوذ التركي في جنوب القوقاز على حساب النفوذ الإيراني. ومن ذلك، بند يقضي بفتح ممرّ برّي عُرف بـ«زينغيزور» بين نخجوان الواقعة على الحدود التركية والتابعة لأذربيجان، وبين الأراض الأذربيجانية، عبر الأراضي الأرمينية. ومِثل هذا الممرّ يُلحق الضرر بإيران، إذ لن تعود الشاحنات مضطرّة لعبور الأراضي الإيرانية من تركيا إلى أذربيجان. وعلى رغم زيارة إردوغان لطهران، لكنّ الإيرانيين بدوا مستائين من الإشارات التركية السابقة حول أذربيجان الإيرانية، ودعوة إردوغان غير المباشرة إلى توحيدها مع جمهورية أذربيجان.
كذلك، استمرّت التوترات «المستدامة» مع اليونان، إذ تصاعَد التوتّر على خلفيّة اتهام أنقرة، أثينا، بانتهاك اتّفاقات الجُزر الواقعة قُبالة الساحل التركي في إيجه، عبر تسليحها. وهدّدت تركيا بإعادة سيادتها على هذه الجُزر إنْ لم تتوقّف اليونان عن عسكرتها. وبالإجمال، فالملفّ التركي مع أثينا مثقَل بالخلافات، ومنها ما يرتبط بحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، حيث تعترض تركيا على التفسير اليوناني لها، والمنسجم مع قانون البحار لعام 1982 الذي لا تعترف أنقرة به. وبطبيعة الحال، ينسحب الخلاف التركي مع اليونان على الخلاف مع قبرص الجنوبية حول حدود المناطق الاقتصادية الخالصة لكلّ دولة.
بالنتيجة، عادت تركيا جزئيّاً إلى سياسة «صفر مشكلات»؛ ولكنها كانت «انتقائية» بإصلاحها العلاقات مع أطراف لم تكن مصالحتها صعبة أصلاً، مِن مِثل السعودية والإمارات وإسرائيل. غير أن المشكلات الحقيقية والكبيرة، كما مع مصر وسوريا، لم تَعرف جهود معالجتها تقدُّماً كبيراً، فيما تسود الضبابية مستقبل التموضع التركي بين المعسكرَين الغربي/ الأطلسي والروسي. وعلى أيّ حال، يبقى كلّ ذلك، في الأشهر الأولى من العام الجديد، في خانة المراوحة في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية المفصلية، والتي ستُجرى مبدئياً بين شهرَي أيار وحزيران المقبلَين.