حضرت السيدة الأرمنية إلى مقرّ بلدية برج حمود شاكية جيرانها «الأجانب». طالبت الشرطة بإجبارهم على إخلاء منزلهم. مثلها، قصد آخرون «حزب الطاشناق»، للاستفادة من نفوذه في ترحيل «الأجانب» أيضاً، عن «كانتون» البرج ذي الغالبية الأرمنية. بعض الأرمن لم يكتفوا بالدعوة إلى طرد جيرانهم «الأجانب»، إنما دعوا أيضاً إلى منع تأجيرهم. و«الأجانب» هنا، كلمة ملطفة للعمّال والنازحين السوريين. يستخدمها البعض للتهرّب من اتهامه بالتمييز. فالبرج وتوابعها، من الدورة إلى النبعة وكورنيش النهر، مليئة بالأجانب من الهند وبنغلاديش إلى إثيوبيا وسيراليون، مروراً بالمصريين والعراقيين. لكنّ النقمة العارمة طاولت عموم المقيمين السوريين بعد إشكالات فردية سُجّلت مع بعضهم. تخمد تلك النقمة كلّ حين، لتعود وتنفجر بأحقاد متراكمة. في عام 2014، انفجرت بين عدد من أبناء المنطقة وشبان أكراد كانوا قد استقرّوا فيها بعد تهجيرهم من سوريا والعراق وتركيا في بداية التسعينيات. قبل الإشكال الدامي وبعده، سُجّلت إشكالات مع أكراد ونازحين سوريين على خلفيات فردية أبرزها «تلطيش بنات الحي». وفي الفترة الأخيرة، تبدو النقمة قريبة من الانفجار بوجه السوريين. على الرغم من ذلك، لا يمكن تعميم هذا الجو بسبب وجود تباين في التعاطي مع السوريين. منهم من وجد فيهم استثماراً مربحاً على صعيد الإيجارات والأسواق والعمالة، ومنهم مَن لم يرَ فيهم سوى عبء اقتصادي واجتماعي وثقافي.

«لا أمان»
في شارع متفرّع من شارع مرعش الرئيسي في سوق برج حمود، تنهي مديرة مشغل «الأرتيزانا» الأرمنية الحديث معنا سريعاً قبل أن تأتي ابنتها لاصطحابها بالسيارة إلى المنزل القريب. قبل حلول الظلام، تلتزم بالإقفال وإن في زمن الأعياد. «ما في أمان» تقول. في البداية، تحفّظت عن التصريح عن سبب «اللاأمان» حيث تعمل منذ 30 عاماً. «ولا مرة كنا هيك» قالت قبل أن تستطرد:«السوريون ليسوا جدداً في برج حمود، لكن الجيل الذي جاء بعد الأزمة السورية مختلف عمن سبقه». تشير إلى أنهم «باتوا منتشرين في كلّ الأنحاء بسبب قدرتهم على الاستئجار بالدولار الطازج الذي يتوافر لبعضهم عبر المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين والمنظمات الدولية. بعد الأزمة الاقتصادية، البعض يهمه أن يؤجر بيته بغضّ النظر لمن».
تُعدّ وديعة الحايك واحدة من هذا النوع من المالكين. قدمت عائلتها من سن الفيل منذ أكثر من مئة سنة. جدها انتقل إلى برج حمود «هرباً من العيش مع الواويي»، عندما كانت بلدته مجموعة أحراج وأراض قفرة. عائلتها شيّدت مبنى في شارع أرمينيا حيث لا تزال تعيش حتى الآن. على مرّ العقود، تنوّعت صنوف المستأجرين في شقق المبنى الذي عكس تنوّع المقيمين في برج حمود. تصف السنوات الأخيرة بأنها أسوأ مرحلة عاشتها مع المستأجرين، كماً ونوعاً. مع ذلك، «أفضّل تأجير السوري على تأجير اللبناني. السوري يدفع بالدولار ويمكنني أن أخليه ساعة أشاء. أما اللبناني، فيعتلّ قلبي قبل أن يدفع ويغادر».

الطاشناق: لا عنصرية
لا يخفي عضو بلدية برج حمود، وعضو حزب الطاشناق، جورج كريكوريان امتعاض البعض من كثافة السوريين في المنطقة، لكنه يرفض مقاربة وجودهم بعنصرية. الالتزام بالقوانين والإقامة الشرعية هما سقف إقامتهم في برج حمود. يذكّر كريكوريان بلجان الإغاثة والمساعدات التي شكّلتها البلدية، لاستقبال النازحين بعد الأزمة عام 2011. الخرق الوحيد للتعاون مع الجالية السورية، سُجل لاحقاً بتعاميم مؤقتة صدرت لتمنع تجوال النازحين في ساعات الليل بعد وقوع إشكالات كبيرة مع بعض أبناء المنطقة. إلا أن لوائح المنع لم تطاول العمل والسكن. «كلّ شخص مقيم بطريقة شرعية له الحق بالتنقل والسكن والعمل أينما يريد. وعليه، نقوم في البلدية بتسجيل عقود إيجار المنازل والمحالّ». وفي هذا الإطار، سعى مع هيئات الإغاثة إلى «تأمين بدلات الإيجار لعدد من السوريين والعراقيين الذين كانوا مهدّدين بالطرد من المالكين». يدافع عضو البلدية المحسوبة على الطاشناق عن المساواة في التعاطي مع المقيمين كافة. لا يخفي بأن الحزب تلقّى طلبات محدودة من بعض الأرمن لإخراج السوريين من المنطقة، لكن قيادته رفضت «إلا إذا توافرت دوافع أمنية دامغة». والسبب «عقيدته الاشتراكية المؤمنة بالعدالة الاجتماعية. فإذا لم نتصرّف بإنسانية مع السوريين وسائر العمال الأجانب، فلا نكون طاشناق». في المقابل، يقرّ كريكوريان بظهور «جيل جديد من السوريين من بينهم بعض المتفلّتين». كثير من الإشكالات التي سُجلت، وقعت «بسبب حساسيات ثقافية واجتماعية». وبرغم أن ظاهرة التفلت الاجتماعي تزداد، في نظره، لكنه يفاخر بـ«التنوّع الموجود هناك»، مبدياً أسفه «لأن السوري يعيش دائماً بقلق».
غادر بعض الميسورين من الأرمن برج حمود إلى منطقة أخرى ومنهم من هاجر نهائياً


نزوح أرمني
في شارع متفرّع من ساحة برج حمود، يدير هاروت محلاً انتقلت ملكيته قبل سنوات قليلة إلى آل بوغوص. العائلة الأرمنية وجدت في المنطقة ملاذاً لها بعد فرارها من حلب عقب اندلاع الأزمة السورية. «بكل سرور وسلاسة، وجدت من يبيعها عقارات ومبانيَ وشققاً ومحالَّ من دون شعور بالتمييز». لا يخفي هاروت بأن «أرمنية بوغوص، رغم سوريته، سهّلت اندماجه في برج حمود». لكنه لا يجد في دعوات التحريض ضد السوريين الآخرين، مصلحة للسكان الأصليين. يتحدّث عن 25 ألف شقة سكنية في برج حمود، ويستعرض في المقابل لائحة طويلة من أقربائه وجيرانه الذين تركوا المنطقة. «لا نزال أكثرية في لوائح الشطب. لكن في الواقع العدد تقلّص كثيراً». وفي هذا السياق، يؤكد كريكوريان أن «بعض الميسورين تركوا برج حمود بعدما أصبحت شعبية ومكتظّة. فيما غادرها آخرون بعدما أُقفلت معاملهم وورشهم خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة. وهناك من هاجر أو عاد إلى أرمينيا». ذلك الفراغ المستحدث ملأه جزئياً النازحون «الذين سكنوا مكان بعض اللبنانيين الذين لم يعودوا قادرين على دفع الإيجار المرتفع».

«لسنا مثل السوريين»
في شارع متفرّع من أراكس، يقع مطعم آربي منغاساريان، وقاعة التدريب التي يستفيد منها شبان وشابات وأطفال سوريون من دورات تجريها المنظمات الدولية. قلة منهم تنبهت إلى اللافتة المعلقة على المبنى المقابل بالعربية والأرمنية: «تجمّع أبناء كسب». كثير من جيل النازحين الجدد لا يعرف عمق التنوّع داخل مجتمعه السوري. بحسب آربي (70 عاماً)، لم تندمج العائلات النازحة حديثاً مع المحيط، بل تقوقعت على نفسها، ربما بسبب اختلاف الثقافة والدين». تقرّ آربي بنقمة بعض الأرمن على السوريين، لكنها تتضامن معهم «يومياً أرى نفسي فيهم. واجهنا المصير نفسه». والدها جاء من سوريا على غرار النازحين. تستعرض إيجابيات كثيرة للنزوح السوري على برج حمود كما كان للوجود الأرمني: «السوريون حملوا مهاراتهم إلى الأسواق، ولا سيما مشاغل الذهب والأقمشة والحرفيات».
يعاني الأرمن بدورهم من انتقادات بسبب هجمة بعضهم على النازحين السوريين وسواهم من الأجانب. منهم من يذكرهم بأنهم هم أنفسهم لاجئون. يتصدّى غريغوريان بشراسة لهذه المقارنة. «الأرمن ليسوا وافدين. عند الإبادة عام 1915، كانوا رعايا السلطنة العثمانية. وما فعلوه بمجيئهم إلى سوريا ولبنان والأردن، هو نزوح داخلي من منطقة إلى أخرى داخل البلد الواحد. ثم جاءت اتفاقية لوزان عام 1923، لتقرّر بأن رعايا السلطنة يصبحون مواطنين في الدول التي نزحوا إليها». لذلك، حصل والد جدّه على الجنسية اللبنانية بعد إنشاء دولة لبنان الكبير.



مصفاة الشعوب
تسأل سيدة صاحبة الدكان الأرمنية عن الحي الذي تتمركز فيه العاملات الأجنبيات الباحثات عن عمل. تدلّها على العم محمود المصري، صاحب محل الدجاج، الذي يعرف الجميع. عند أطراف حيّ «كامب» طراد، يقيم محمود منذ عام 1979 بعدما شجّعه شقيقه على القدوم للعمل في لبنان. شقيقه كان عاملاً في مرفأ بيروت ويقيم في النبعة مع عدد من العمال المصريين في غرفة واحدة. حذا محمود حذوه. تنقّل في مهن عدة، لكنه غادر النبعة عام 2016، حينما طلب إليه صاحب المنزل «الشيعي» استعادته بعدما استعاد عقاره الذي صودر خلال الحرب الأهلية. حينها، انتقل محمود إلى الجهة الأخرى من الجسر. سكن في سدة المحل الذي يملكه منذ سنوات. من حوله، توزّعت عدد من السيدات الفيليبينيات. إحداهن روس التي سكنت في النبعة منذ وصولها إلى لبنان عام 2005. تزوّجت لبنانياً عام 2009 وأنجبت فتاة وتفرّغت لتربيتها. في الحيّ المتواضع، لا ترتاح روس للعيش. بالإنكليزية، تشرح كيف زادت «الزعرنات» أخيراً، ما يضطرها إلى توصيل ابنتها (13 سنة) بنفسها يومياً إلى المدرسة، خوفاً عليها. مواطنتها وجارتها متزوّجة سورياً. فيما ماري متفرّغة للعمل في حضانة الأطفال. والثالثة تطبخ وجبات رخيصة لعمال آسيويين.
تصنّف روس أحياء برج حمود بحسب الجنسيات التي تتمركز فيها. الفيليبينيات والإثيوبيات في أحياء البرج. أما الدورة، فهي ضاحية من بنغلاديش والهند. البعض استثمر مركزية العمال الأجانب في الدورة، فافتتح محالَّ لبيع أغراضهم. أبرزها مؤسسة عطالله التي افتُتحت عام 2006 وتجمع منتجات من آسيا إلى أفريقيا من العطورات والبهارات إلى الخضر والفواكه. تشير روس إلى أن عدد العمال الأجانب قد تراجع بسبب انهيار سعر صرف الليرة. أحد الباعة في المؤسسة يصف البرج والدورة تحديداً بأنها «مصفاة الشعوب. حيث تجد الجنسيات الفقيرة، تتآلف وتسعى لغد أفضل». فيليبينيات كثيرات ممن بقين، تركن الخدمة المنزلية ويعملن في مطاعم السوشي التي تدفع الرواتب بالدولار.


تراجع في عدد الأرمن
لا تسمح الأرقام الواردة في لوائح الشطب الخاصة بالانتخابات النيابية الأخيرة، بالاستمرار طويلاً في إعلان برج حمود عاصمة لأرمن لبنان. المقارنة بين بيانات اللوائح التي جُهزت للانتخابات النيابية المؤجّلة عام 2013، والانتخابات الأخيرة في أيار الماضي، تظهر تراجعاً كبيراً في أعداد الأرمن. تراجع يربطه الباحث كمال فغالي بعاملين: أولهما سيطرة فئة كبار السن على المقيمين وثانيهما الهجرة الواسعة حيث ينجب الأرمن سواء بقلة أو بكثرة، لكن من دون تسجيلهم في لبنان وسفاراته. يقدّر فغالي عدد أرمن برج حمود المسجّلين بـ35 ألف نسمة. لكن بالنظر إلى الفئات العمرية بحسب سجلّات القيد، يظهر بأن المتوفين في السنوات الماضية لن يحل مكانهم أطفال وشبان. في سجلات 2022 سجّل الأرمن 816 شخصاً أعمارهم أقل من 50 سنة، في مقابل ألف و64 شخصاً أعمارهم ما بين 50 و69 عاماً. أما من هم فوق الـ70 سنة، فقد بلغ عددهم ألفاً و77 شخصاً.