على رغم أن التضييق على الحراكات الطالبية الفلسطينية داخل الجامعات الإسرائيلية ليس وليد اليوم، إلّا أنه يسجّل راهناً قفزة كبرى مع صعود الفاشية في كيان الاحتلال، متجلّياً بأوضح مظاهره في «جامعة بن غوريون» التي تصعّد إدارتها استفزازاتها للطلَبة الفلسطينيين، مُرغِمةً إيّاهم على إلغاء الفعاليات المرتبطة بهويّتهم وانتمائهم الوطني. وإذ تدرك تلك الحراكات المستقلّة، التي عانت خصوصاً منذ اندلاع هَبّة أيار هجمة عنصرية شرسة عليها، خطورة المرحلة التي يبدو الفلسطينيون عموماً مُقبِلين عليها، فهي تستعدّ لمواجهة هذه المرحلة بمزيد من الإصرار على لَعِب دورها في تشكيل الوعي الفلسطيني الجمعي، ومواجهة العنف الاستعماري الممارَس ضدّ أهل الأرض الأصلييين
ليست المبادرة إلى اقتراح مشاريع قوانين بشأن حظْر رفْع العلم الفلسطيني في الجامعات والمؤسّسات الإسرائيلية، محْض «مصادفة عنصرية»، ولو أنها آتية في سياقٍ ينزاح فيه المجتمع الإسرائيلي نحو أقاصي اليمين. ذلك أن الحراكات الطالبية الفلسطينية في تلك الجامعات، فَرضت واقعاً جديداً، بموازاة تناسُل تنظيمات «الصهيونية الدينية»، وتغلغلها في مفاصل دولة الاحتلال، بما فيها المنظومة التعليمية، التي أضحت مساحة للتنازع على مكانة الدين في تعريف الدولة اليهودية، وعلى مساحة المناورة القانونية وشكلها وحدودها. ومن هنا، تتصاعد حالة القمع ضدّ الطلَبة الفلسطينيين، والتي وصلت أخيراً إلى حدّ إجبار جامعة «بن غوريون» في بئر السبع، مجموعة «بلدنا - النقب» وحراك «المطرح» على إلغاء مهرجان استقبال العام الدراسي الجديد، والذي كان سيستضيف الفنّانين الفلسطينيين رلى ميلاد عازار، وآية خلف، وكنان الغول.
وجاء قرار الإلغاء في أعقاب ممارسة إدارة الجامعة ضغوطاً مكثّفة على الفلسطينيين، من أجل حمْلهم على تحوير طبيعة فعّاليتهم وحصْرها في نطاق ضيّق. وفي هذا الإطار، تُوضح الطالبة هُتاف الهزيّل، من حراك «المطرح»، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الإدارة اطّلعت على أسماء الفنّانين، وتدخّلت حتى في طبيعة العروض وشكلها، كما طالبت بترجمة الأغاني والأشعار التي ستتمّ تأديتها، ومضمون الملصقات والمنشورات الخاصة بالحفل، قبل أن تَحظر إقامة بعض الفعاليات مِن مِثل بيت الشعر وخيمة الضيافة، عارضةً علينا إقامة المهرجان خارج الحرم الجامعي، وتحديداً في المركز الرياضي، وهو ما رفضناه على اعتبار أنّنا طلّاب في هذه الجامعة ومن حقّنا إقامة المهرجان في حرمها لا خارجها». في المقابل، برّرت إدارة «بن غوريون» موقفها بأن المهرجان «يشوّش على الأمن العام في الجامعة ويشكّل خطراً على سلامة الجمهور»، مُسوّغةً اختيار المركز الرياضي بأنه أتى «للحفاظ على سلامة الطلاب». لكنّ «المطرح» و«بلدنا - النقب» يفسّران الموقف بأنه رضوخ لمطالب اليمين الصهيوني، خصوصاً أن أمن الجامعة أبلغ المنظِّمين بأن «دعوة الفنان كنعان الغول مرفوضة، كونه مؤيّداً لحملة مقاطعة إسرائيل». وكان الأمن تذرّع، ابتداءً، بأنه «يحتاج إلى وقت إضافي لتعزيز نظام الحماية، ليتّضح لاحقاً أنه لن تكون هناك موافقة على إقامة الحفل خوفاً من ردّ فعل العناصر اليمينيّين المتطرفين»، وفق ما تؤكّد الهزيّل، واصفةً ما جرى بأنه «محاولة لإسكاتنا وطمْس هويّتنا الفلسطينية وقمْع كلّ نشاط سياسي أو فعالية ندعو إليها بحجّة الخوف من ردّ فعل اليمين».
القانون قابلٌ دائماً للتطويع بما يفيد التضييق الممنهج الممارَس ضدّ الفلسطينيين وهويّتهم


مع ذلك، تَلفت الطالبة إلى أن «الاجتماعات متواصلة، والمحاولات لا تزال قائمة»، مؤكّدة «(أنّنا) لن نستسلم لمحاولات قمعنا، لا من قِبَل إدارة الجامعة نفسها ولا حتى لجماعات اليمين، ولن نرضخ حتى نقيم الحفل بالشكل الذي خطّطنا له»، والذي يتضمّن فعّاليات نهارية مِن مِثل أكشاك الطعام والخِيم وبيوت الشعر، وتوزيع الملصقات المشغولة يدوياً، ووصلات من التراث الفلسطيني كالدبكة والدحيّة، وأخرى ليلية تشمل برنامجاً غنائياً بمشاركة أكثر من ألفَي طالب فلسطيني. وعلى رغم أنه بموجب القانون الإسرائيلي، لا يجوز التهجّم على الطلَبة أو إلحاق الأذى بهم، فقط لأنهم يَنشدون لفلسطين أو لأنهم يرفعون العلَم الذي يعبّر عن هويّتهم. لكن يبدو أن هذا القانون، سواء قبل صعود اليمين الجديد أو بَعده، قابلٌ دائماً للتطويع بما يفيد التضييق الممنهج الممارَس ضدّ الفلسطينيين وهويّتهم. ولعلّ من أوضح الأدلّة على كوْن ذلك القانون موضوعاً أصلاً لحماية اليهود حصراً، ومنْحهم القوّة الكافية لتخطّيه وممارسة ما يحلو لهم من انتهاكات، هو الأحكام الهزيلة التي صدرت ضدّ قلّة منهم أدينوا بارتكاب «لينش» بحقّ فلسطينيين، بينهم طلَبة جامعة بئر السبع نفسها، وجرائم أخرى ارتُكبت إبّان هَبّة أيار.
على رغم ما تَقدّم، توضح الهزيّل أنه إلى ما قبل الهَبّة، ومِن بَعدها الوقفة الاحتجاجية التي أعقبت استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة، ومن ثمّ وقفة إحياء ذكرى النكبة داخل الحرم الجامعي، «لم نستشعر محاولات إخراسنا من قِبَل إدارة الجامعة بالشكل الحاصل أخيراً»، معتبرةً، على رغم تأكيدها أنه في إسرائيل «لا يوجد يسار ويمين، بل يمين وأقصى اليمين»، «(أنّنا) مُقبلون على مرحلة أكثر صرامة، سيكشّر فيها الاحتلال عن أنيابه بلا مواراة ولا خجل... مرحلة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتش». إزاء ذلك، وبينما ستحاول المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية التموضع في «المنطقة المريحة» (Comfort zone)، تَبزر أهمّية دور الحراكات الطالبية المستقلّة في ردْم الفجوات التي خلّفتها الأحزاب الكلاسيكية، وهو ما تشدّد الهزيّل على ضرورته «من أجل مواجهة هندسة الوعي المجتمعي التي ينفّذها الاحتلال، مُحاولاً جعل الفلسطينيين في الداخل جزءاً من مُواطنيه، بدرجة صفر (دونية)»، لافتةً، في هذا السياق، إلى أن «المطرح حراك سياسي مستقلّ عن الأحزاب والكيانات التي ترى نفسها جزءاً من المنظومة الاستعمارية، من طريق مشاركتها في البرلمان»، مضيفةً: «نحن نؤمن بالشارع، ونرى أن مكاننا الصحيح هو فيه، بين شعبنا. ومقاطعتنا للكنيست ليست بصفته فقط السلطة التي تُفصّل السياسات الممنهجة لاستهدافنا، بل انطلاقاً من أنّنا لا نرى بأنفسنا جزءاً من الدولة التي تحتلّنا».
وإذ تشير إلى أن «هناك خوفاً داخل المؤسّسة الإسرائيلية من تكرار أحداث هَبّة أيار عموماً»، فهي ترى أن «سلطات الاحتلال راهنت على أن القمع سيثني الفلسطينيين عن محاولة الانتفاض مجدّداً، لكن هَبّة النقب مطلع العام أظهرت خيبة هذا الرهان». مع ذلك، لا تنكر الهزيّل، وهي طالبة في علم النفس، أن «القمع الوحشي ضدّ المعتقَلين، ومن بينهم الأطفال (12 - 18 عاماً)، أحدث صدمة نفسية رهيبة»، لافتةً إلى أنها، بصِفتها عضواً في مبادرات دعم نفسي ومعنوي للمعتقَلين، «قابلت أطفالاً تعرّضوا للاعتقال، كان أحدهم مهشّم الأسنان، وآخر مهشّم الرأس... استخدموا ضدّهم أساليب تعذيب نفسي وجسدي، وكانوا يرغمونهم تحت الترهيب على التوقيع على اعترافات، مدّعين أن ذلك سيخلّصهم ممّا هُم فيه، ويجعلهم يقابلون أمّهاتهم أخيراً». ومن هنا، تشدّد على أهمّية «الدعم المجتمعي»، مستبعِدةً، في الوقت نفسه، أن «يَخرج المعتقَلون، وخصوصاً الأطفال والطلَبة، من الصدمات النفسية التي تعرّضوا لها».