لندن | اختَتم وزراء خارجية «حلف شمال الأطلسي»، مساء الأربعاء، يومَين من الاجتماعات في بوخارست، بعدما ناقشوا فيها التحدّيات طويلة الأجل التي تمثّلها الصين، وتعظيم دعم شركاء الحلف شرق أوروبا وشمالها، متعهّدين بمضاعفة عديد القوات على حدود روسيا. لهجة التصعيد المستمرّ الذي تقوده الولايات المتحدة من خلال «الناتو»، وُوجهت سريعاً بتصلّب روسي - صيني، جرى التعبير عنه بإلغاء موسكو مشاركتها في محادثات مع واشنطن حول الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، فيما شاركت طائرات روسية استراتيجية يمكن تحميلها بأسلحة نووية مثيلاتها الصينية في استعراض نادر للقوّة، تضمّن مناورات مشتركة قبالة جزيرة فرموزا (تايوان)، واخترقت فيها الطائرات المجال الجوي لكوريا الجنوبية
تستمرّ الولايات المتحدة في الدفع باتجاه مزيد من التأزيم مع الصين وروسيا على نحو بدا أنه يختبر قدْرة النظام العالمي على التحمُّل. واستغلّت واشنطن اجتماع وزراء خارجية دول «حلف شمال الأطلسي» في بوخارست (رومانيا)، الذي عُقد يومَي الثلاثاء والأربعاء، وضمّ ممثّلين عن أوكرانيا وفنلندا والسويد، للدفع نحو توسيع الحرب في أوكرانيا، من خلال إرسال المزيد من القوات إلى الحدود الغربية لروسيا، والتركيز على فرْض رؤية واشنطن على تجمُّع الحلفاء في شأن التحديات طويلة الأجل التي تمثّلها الصين بالنسبة إلى الغرب. وأعلن الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، لدى افتتاح الاجتماع، أنه «ردّاً على الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد ضاعفنا عدد مجموعات الناتو القتاليّة في أوروبا من أربع إلى ثماني، واحدة منها هنا في رومانيا، بقيادة فرنسا»، و«زدْنا من وجودنا على الأرض، ولدينا المزيد من الحضور في الجوّ»، مضيفاً إنه «في الأسبوع الماضي فقط، أجرى حلفاء الناتو تدريبات لاختبار الدفاعات الجوية والصاروخية في رومانيا، شاركت فيها الطائرات الإسبانية والتركية والأميركية، وكذلك الطائرات الفرنسية التي انطلقت من حاملة الطائرات شارل ديغول»، مشيراً إلى أن «الغاية من تلك المناورات، إظهار عزْم حلفاء الناتو الأكيد على العمل معاً للدفاع عن كل شبر من أراضي الحلفاء، ومجالهم الجوي أيضاً».
والتقى وزراء خارجية الحلف، الثلاثاء، نظيرهم الأوكراني، دميترو كوليبا، للبحث في تلبية احتياجات كييف الأكثر إلحاحاً، متعهّدين باستمرار الدعم للنظام الأوكراني على المدى الطويل، بعدما حثّت كييف شركاءها الغربيين على تزويدها بأنظمة دفاع جوي ومقاتلات متطوّرة لصدّ الضربات الروسية، فيما تطمح إلى الحصول على دبابات «ليوبارد» الألمانية المتقدّمة. واتفق الوزراء المجتمعون على أن استمرار تدفُّق المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا «أمر ضروري»، وبخاصة الدّفاعات الجوية. واستُخدم الاجتماع كمنصّة أَعلن منها الحلفاء توسيع نطاق المساعدات اللوجستية المقدّمة لنظام كييف وحجمها، بما في ذلك الوقود ومولّدات الكهرباء وعربات النقل، وتعهّدوا بمدّ العون لإصلاح البنية التحتية للطاقة والكهرباء والمياه التي تضرّرت بشدّة جرّاء الهجمات الصاروخية الروسية. ووفق الأمين العام للحلف، فإن موسكو تستخدم برْد الشتاء القارس كـ«سلاح حرب»، وهو ما ردّده أيضاً وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، الذي اتهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتعمُّد استهداف البنية التحتية المدنية وشبكات الطاقة «في محاولة لتجميد الأوكرانيين وإجبارهم على الخضوع».
وانضمّت فنلندا والسويد إلى الحلفاء في جميع جلسات الاجتماع الوزاري للمرّة الأولى منذ تقدّمهما بطلب الانضمام إلى «الناتو»، كما التحق وزراء خارجية البوسنة والهرسك، وجورجيا، ومولدوفا بالاجتماع في جلسته الختاميّة. واتفق الوزراء على زيادة الدعم المخصّص لهؤلاء الشركاء الثلاثة، بما في ذلك بناء القدرات القتالية والتطوير والتدريب لتحسين مؤسّساتهم الأمنية والدفاعية. ونُقل عن ستولتنبرغ قوله إن «الناتو هو تحالف بين أوروبا وأميركا الشمالية، لكن التحدّيات التي نواجهها عالمية، ويجب أن نتصدّى لها معاً في الحلف بصيغة معولمة أيضاً»، معتبراً أن «تمدُّد الناتو شمالاً بضمّ فنلندا والسويد، هو بمثابة تغيير تامّ في قواعد اللعبة بالنسبة إلى الهيكلية الأمنية الأوروبية، سيجعل المظلّة الأطلسية أكثر أماناً»، مؤكداً أن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان في نهاية المطاف أعضاء في الحلف، وفق تعهّد بهذا الخصوص منذ عام 2008 (تمثّل عضوية أوكرانيا في «الناتو» والاتحاد الأوروبي حجر الزاوية في سياسة نظام كييف اليميني الخارجية). ولم يخفِ ستولتنبرغ تورّط الحلف الرسمي في الحرب الأوكرانية، قائلاً إن «رسالتنا من بوخارست هي أن الناتو سيواصل الوقوف مع أوكرانيا مهما تطلّب الأمر، ولن نتراجع». ومن المعروف أن هذه التعهدات المعمَّمة في شأن مشاركة «الأطلسي» في الحرب ضدّ روسيا، ترتبط بمناقشات ملموسة تجري - وفق خبراء - في الكواليس، لإرسال مقاتلات أميركية من طراز «إف-16»، وصواريخ بعيدة المدى، وطائرات هجومية من دون طيار إلى مناطق الاشتباك شرق أوكرانيا. وهناك جهات تدفع نحو السماح للأوكرانيين باستخدام أسلحة متطوّرة لاستهداف مواقع الصواريخ أو المطارات داخل روسيا التي تنطلق منها العمليات العسكرية. ووجّهت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، نداءً إلى حكومة بلادها على هامش مشاركتها في اجتماع بوخارست، لدعم القوات الأوكرانية بطائرات هجومية من دون طيار من طراز «النسر الرمادي» التي يمكنها العثور على السفن الحربية الروسية ومهاجمتها في البحر الأسود. ومن بين الموقّعين على النداء، جو مانشين، الحليف الرئيسيّ لجو بايدن في مجلس الشيوخ، وحليف ترامب ليندسي غراهام.
نفّذت طائرات حربية استراتيجية روسية وصينية دوريات مشتركة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي


على أن مناقشات الاجتماع تركّزت بشكل أساسي حول التمدّد الطموح للقدرات العسكرية للصين، وتقدّمها التكنولوجي، وأنشطتها السيبرانية والهجينة المتنامية وتعاونها مع روسيا، إذ شدّد الوزراء على ضرورة الحفاظ على التفوّق التكنولوجي لـ«الناتو»، ومواصلة تعزيز التعاون مع الشركاء في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ ومع الاتحاد الأوروبي. وقال ستولتنبرغ إن الحرب في أوكرانيا أظهرت اعتماداً خطيراً على الغاز الروسي، وإن «هذا يجب أن يقودنا أيضاً إلى تقييم اعتمادنا على الأنظمة الاستبدادية الأخرى، وبالذات الصين، في ما يتعلّق بسلاسل التوريد أو التكنولوجيا أو البنية التحتية»، مستدركاً: «سنواصل بالطبع التجارة والانخراط اقتصادياً مع الصين، ولكن علينا أن نكون على دراية بتبعيّتنا، والحدّ من نقاط ضعفنا، وإدارة المخاطر». من جهته، شدّد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، على أن أعضاء الحلف «قلقون من السياسات القمعية لجمهورية الصين الشعبية، واستخدامها للمعلومات المضلّلة، وحشْدها العسكري المتسارع والعدواني، وكذلك تعاونها مع روسيا». وتدفع الولايات المتحدة، الغرب، إلى التعامل مع الصين كعدو استراتيجي أساسي حتى قبل روسيا، بعدما ارتفعت وتيرة العداء الأميركي لهذا البلد بشكل ملحوظ منذ إعلان بكين وموسكو شراكة استراتيجية «بلا حدود» في شباط الماضي، قبل أيام فقط من انطلاق الحرب في أوكرانيا.
وفي أوّل ردّ فعل روسي على قمّة بوخارست، قال مسؤولون أميركيون إن موسكو أجّلت محادثات الأسلحة النووية التي كان من المقرَّر أن تبدأ أمس، ما يمثّل انتكاسة لآخر معاهدة أسلحة متبقّية بين القوتَين النوويتَين الأعظم، ويقدّم دليلاً إضافيّاً على تأزّم العلاقات بين الطرفَين. وكان لهذه المحادثات أن تشكّل اللقاء الأوّل من نوعه منذ بداية جائحة «كوفيد-19» في إطار معاهدة «ستارت الجديدة» في شأن ترسانات الأسلحة النووية الاستراتيجية لدى كلّ من موسكو وواشنطن، والتي سمحت للطرفَين بإجراء عمليات تفتيش موقعي للتحقُّق من الالتزام بهذه الحدود، فيما من المقرَّر أن تنتهي صلاحية المعاهدة في عام 2026. وقال نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف: «نرسل إشارات إلى الأميركيين بأن خطّ تصعيدهم وتورّطهم المتسارع في هذا الصراع محفوف بعواقب وخيمة. إن المخاطر آخذة في الازدياد»، فيما أشار مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إلى أن روسيا اتّخذت قرار إلغاء المحادثات «من جانب واحد»، وأضاف إن واشنطن ما زالت تأمل في العودة قريباً إلى المحادثات الفنية في شأن تنفيذ المعاهدة. وتشعر الولايات المتحدة بالقلق بشكل خاص من أن روسيا قد تحاول استخدام سلاح نووي تكتيكي في ساحة المواجهة في أوكرانيا، وهي فئة لا تغطّيها المعاهدة.
لكن أقوى الاستجابات الروسية - الصينية على قمّة بوخارست، جاءت على الجانب الآخر من الكوكب، وتحديداً من المجال الجوي لكوريا الجنوبية الخاضع للحماية الأميركية، إذ نفذت طائرات حربية استراتيجية روسية وصينية، يمكن تحميلها بأسلحة نووية، دوريات مشتركة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي انطلقت من قبالة شواطئ جزيرة فرموزا (تايوان)، وقالت سيول إنها اخترقت منطقة دفاعها الجوي ودفعتها إلى إرسال مقاتلات اعتراضيّة. وسمح الأميركيون، أخيراً، لحلفائهم الأوروبيين بفتح قنوات تواصل اقتصادية الطابع مع الصين لمحاولة ثني قيادتها عن تعميق تحالفها المقلق للغرب مع روسيا، كما تصاعدت دعوات في الشارع الأوروبي للدفع في اتجاه التفاهم مع روسيا، لكن قمّة بوخارست بدت كما لو أنها أعادت الأمور بمجملها إلى المربّع الأوّل مجدداً. وتبدو الشروخ في النظام العالمي مرشّحة للتعمّق بفعل سعْي الولايات المتحدة إلى فرض سقف عالميّ على أسعار النفط الروسي، ودفْعها أوروبا إلى التخلّي عن شراء الغاز الروسي بشكل كلّي، والتوجّه لاستخدام الأصول الروسية المحجوزة في الغرب لدعم النظام الأوكراني، فضلاً عن الاحتمال المتزايد لإقدام الولايات المتحدة على تزويد الجيش الأوكراني بأسلحة نوعية فتّاكة.