تثير عودة السفير الأميركي إلى السودان، بعد نحو رُبع قرن من التمثيل الديبلوماسي المتدنّي لواشنطن في هذا البلد، تساؤلات كثيرة حول ما يدور في الحوار الجانبي بين الولايات المتحدة، وسلطة العسكر الحاكمة في الخرطوم منذ انقلاب تشرين الأول. والظاهر، وفق بعض المراقبين، أن الأميركيين بدأوا، بالفعل، مسار تطبيع مع السلطة الحالية لِما يرون فيها من منافع لصالح استراتيجيتهم المتركّزة على مواجهة نفوذ موسكو وبكين المتنامي في أفريقيا، وذلك على حساب مطلب عودة "المسار الديموقراطي المدني" والذي صدّعت واشنطن الآذان به منذ وقوع الانقلاب
تَوّج وصول السفير الأميركي، جون جودفري، إلى الخرطوم (24 الجاري) مرحلة جديدة من التقارب مع السودان، بعد نحو ثلاثة أعوام من إعلان الولايات المتحدة (كانون الأول 2019) عزمها رفع تمثيلها الديبلوماسي في هذا البلد. وأَدرجت واشنطن هذه الخطوة في سياق "تعزيز العلاقات الثنائية، ودعم تطلّعات الشعب السوداني إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال الديموقراطي، والنهوض بأولويات السلام والأمن والتنمية الاقتصادية والأمن الغذائي"، وفق ما أوردته سفارتها في واشنطن، والتي بيّنت أن جودفري هو أوّل سفير أميركي في السودان منذ 25 عاماً (تاريخ خفْض أميركا تمثيلها من سفير إلى قائم بالأعمال في عام 1997). وجاء ذلك التطوّر وسط تقدُّم نسبي في تفاهمات واشنطن مع إدارة المرحلة الانتقالية، في أعقاب إعلان رئيس "مجلس السيادة"، عبد الفتاح البرهان، عزم الجيش تسليم إدارة تلك المرحلة لحكومة مدنية يتمّ التوافق عليها.

عودة السفير والقضايا الثنائية
شهدت العلاقات السودانية - الأميركية تحسُّناً ملموساً منذ كانون الأول 2019، بإعلان البلدَين عزمهما تبادل السفراء، وما أعقبه من إرسال الخرطوم سفيرها إلى واشنطن، نور الدين ساتي، في أيار 2020، ثمّ إعلان البيت الأبيض في شباط من العام الجاري ترشيح جودفري سفيراً في السودان. كذلك، أعلنت الإدارة الأميركية، مطلع آب الحالي، تقديم أكثر من 88 مليون دولار كـ"مساعدات إنسانية إضافية لشعب السودان" عبر "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، في خطوة مخالِفة لمسار تجميد المعونات إثر انقلاب تشرين الأول الماضي، ربّما تؤشّر إلى تحوُّل في مسار الحوار بين الجانبَين، حول مسائل إدارة "المرحلة الانتقالية"، ومن بينها ملفّ محاكمة رموز نظام عمر البشير أمام "المحكمة الجنائية الدولية".
وفي هذا الملفّ الأخير تحديداً، لفت تأكيد نائب المندوب الأميركي في الأمم المتحدة، ريتشارد ميلز، خلال اجتماع لمجلس الأمن بحضور المدّعي العام لـ"الجنائية الدولية"، كريم خان، حول السودان ومحاكمات دارفور (23 الجاري)، إلى أن السلطات السودانية سهّلت زيارات المدّعي العام وطاقمه، واتّخذت أخيراً خطوات لتقديم بعض المساعدات لهما في تحقيقاتهما في مسألة دارفور، وهو ما "يجب أن يستمرّ ويتحسّن". وحثّ ميلز السلطات السودانية على "مواصلة الالتزام بمقتضيات القانون الدولي وفق القرار الرقم 1593، والتعاون مع الجنائية الدولية" (في إشارة ضمنية إلى رفض تلك السلطات السماح لمسؤولي المحكمة بمقابلة الرئيس المعزول، عمر البشير). كما نشرت السفارة الأميركية، في يوم وصول جودفري إلى الخرطوم، بياناً مشتركاً لسفراء ورؤساء بعثات ديبلوماسية غربية (11 دولة)، يدعو السلطات السودانية إلى تجديد التعاون الكامل وغير المحدود مع "الجنائية الدولية، تماشياً مع اتفاق جوبا للسلام ومذكّرة التفاهم الموقَّعة بين مكتب المدّعي العام والسودان في آب الماضي".
موقع السودان الواصل بين الشرق الأوسط وقلْب أفريقيا جنوب الصحراء، يكتسب أهمية متزايدة لدى الإدارة الأميركية


وعلى صعيد المرحلة الانتقالية و"التعاون الاقتصادي"، رأت الخرطوم أن عودة السفير الأميركي بعد رُبع قرن من غيابه، تُمثّل "نقطة تحوّل كبيرة في العلاقات"، معتبرةً أن جودفري يمكنه لعب دور كبير في "وصول الأطراف السودانية إلى الانتقال الديموقراطي انتهاءً إلى الانتخابات"، وأن اعتماده يعني بالضرورة "دفْعة للجهود الدولية الداعمة لسلاسة المرحلة الانتقالية في السودان باعتبار الولايات المتحدة أهمّ شركاء البلاد الدوليين". من جهته، شدّد جودفري، بعد وصوله بساعات، على أن "الانتقال إلى حكومة بقيادة مدنية سوف ييسّر تعاوناً حكومياً ثنائياً أكبر، ويعزّز وصول (مزيد من) المساعدات التنموية الأميركية والدولية إلى السودان"، والتي يمكن أن تساعد في تحسين اقتصاده.
من جهته، بادر قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، بالتزامن مع وصول السفير الأميركي، إلى إكمال أكبر تعديل في القيادة العسكرية منذ الانقلاب، شمل قادة القوات الجوّية والبرّية والعمليات والإمداد والمفتّش العام للجيش، فيما احتفظ رئيس هيئة الأركان المشتركة، محمد عثمان الحسين، بمنصبه. وأدرج مراقبون سودانيون قرار البرهان في سياق "تمتين شوكة الدعم السريع والإخوان المسلمين"، لأن ترقية وإعفاء عدد من القيادات (ولا سيما عصام كرار وعبدالله البشير ومنور عثمان نقد) أزاحا مجموعة كانت تمثّل خطّ مواجهة ضدّ قوات "الدعم السريع" وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مع توقّعات بشمول هذا التوجّه إقالة رئيس الأركان لاحقاً. وقد يجوز تفسير تزامن الخطوتَين الأميركية والسودانية باعتبارهما ضمن "إجراءات بناء الثقة"، حيث قدّم السفير أوراق اعتماده لوزير خارجية نظام الانقلاب، ما يُعدّ اعترافاً ضمنياً بإدارة البرهان، بينما استهدفت إجراءات الأخير تأكيد قدرته على اتّخاذ قرارات حاسمة من دون معارضة تُذكر داخل مؤسّسة الجيش السوداني، في ما يمثّل رسالة بالاستعداد لإحداث "إصلاحات" داخل هذه المؤسّسة، وفق المطلب الأميركي المستمرّ منذ سقوط البشير.

السودان نقطة ارتكاز إقليمية لواشنطن
يرى مراقبون سودانيون أن الخطوة الأميركية لا تنفصل عن مساعي واشنطن لاحتواء أيّ نفوذ روسي (وصيني في درجة تالية) في السودان والقرن الأفريقي، أو محاولة موسكو إيجاد موطئ قدم لها في البحر الأحمر أو بالقرب من تشاد وأفريقيا الوسطى الواقعتَين غربي السودان. كما يرون أن هذه الخطوة تعني القبول ضمنياً بترتيب المشهد السوداني وفق مشيئة الانقلابيين. وتتّسق تلك الرؤية بشكل كبير مع ما صاغه البيت الأبيض (8 آب) بشأن "استراتيجية الولايات المتحدة نحو أفريقيا جنوب الصحراء"، والتي تشدّد على أهمّية المنطقة المذكورة في أولويات واشنطن العالمية، وتصوغ خطّة جديدة لكيفية الانخراط في أفريقيا ومع أطرافها. وحدّدت الخطّة أربعة أهداف في أفريقيا جنوب الصحراء خلال الأعوام الخمسة المقبلة (2022 - 2026)، وهي: "تعزيز الانفتاح والمجتمعات المفتوحة؛ تقديم عائدات ديموقراطية وأمنية؛ تحقيق تقدّم في التعافي من الجوائح والفرصة الاقتصادية؛ ثمّ دعم الحفاظ على البيئة والتكيّف المناخي والانتقال الطاقوي العادل".
ويمثّل السودان، بالشكل الحالي للحُكم فيه، نقطة ارتكاز أميركية هامّة في إطار هذه الاستراتيجية، وهو ما يجلّيه تشديد الخطّة على ضرورة "مراجعة أدوات الارتباط بالجيوش الأفريقية، ولا سيما برامج دعم بناء القدرات المؤسّساتية ومكافحة الفساد وتعميق إصلاحات القطاع الأمني، والاتّساق مع استراتيجية الدفاع القومي 2022 التي تخوّل وزارة الدفاع الأميركية التعاون مع الشركاء الأفارقة لكشف وإبراز مخاطر "الأنشطة الصينية والروسية السلبية في أفريقيا"، الأمر الذي يؤشّر إلى الرهانات الموضوعة على القوات المسلّحة السودانية، ودورها المرتقب أميركياً في وسط أفريقيا والقرن الأفريقي وإقليم الساحل. يُضاف إلى ما تَقدّم أن موقع السودان الواصل بين الشرق الأوسط وقلْب أفريقيا جنوب الصحراء، يكتسب أهمية متزايدة لدى الإدارة الأميركية، أخذاً في الحسبان شواغل محدَّدة مِن مِثل الوضع في جمهورية أفريقيا الوسطى التي يتعاظم النفوذ الروسي فيها ولا سيما عبر شركة "فاغنر"؛ وتشاد التي تشهد تصعيداً عسكرياً وأمنياً خطيراً تزايدت حدّته أواخر آب الجاري، فيما يُتوقّع أن يكون للسودان دور مهمّ في "ضبط" الحدود المشتركة معها وفق مخرجات المحادثات التي أجراها "حميدتي" في الأسبوع الأول من الشهر الجاري في العاصمة التشادية أنجامينا مع الرئيس محمد ديبي؛ وجنوب السودان حيث يتعاظم النفوذ الصيني في قطاع البترول؛ وإثيوبيا وإريتريا الواقعتَين على حدود السودان الشرقية وتمثّلان خطّ مواجهة أوّلَ، وربّما تحدّياً في المواجهة الديبلوماسية الأميركية الحالية في القارة.