موسكو | في وقت ينشغل فيه الغرب، مسؤولين ومحلّلين ووسائل إعلامية، بالحديث عن أعطاب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفشل موسكو في تحقيق أهدافها منها، تمضي الأخيرة في إعادة تشكيل الجنوب والشرق الأوكرانيَين وفق ما تشتهيه، وهو ما بدأ يثير مخاوف مَن كانوا شديدي الحماسة للتقديرات الغربية، وسط إقرار مستجدّ بنجاح روسيا في تكتيكاتها التي لم تأخذ الحيّز الأكبر من الضخّ الإعلامي، مقارنة بحركة الجنود والدبابات والطائرات والصواريخ. وعلى رغم أن السلطات الروسية تتريّث، إلى الآن، في الحديث عن ضمّ أيّ مناطق أوكرانية جديدة إلى سيادتها، إلّا أن ما تقوم به على الأرض من تطبيع للحياة وفق قوانينها وأدواتها في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وعلى رأسها مقاطعة خيرسون، يشي بأن مستقبل هذه المناطق سيتحدّد بيدها، في إطار مشروع «نوفوروسيا» الذي تسعى وتعمل بجدّ على إحيائه
أنقر على الخريطة لتكبيرها

مع انطلاق عمليّتها العسكرية في أوكرانيا، سارعت روسيا إلى العمل على بسط سيطرتها على مقاطعة خيرسون، وهو ما تَحقّق لها في 15 آذار الماضي، لتكون هذه المنطقة أوّل مقاطعة أوكرانية تقع تحت سيطرتها. وعمدت موسكو، عقب ذلك، إلى تفجير السدّ الذي أقامته كييف على نهر دنيبر لمنع سكّان شبه جزيرة القرم من التزوّد بالمياه للشرب والزراعة، كما بدأت الإعداد للانطلاق منها نحو أوديسا وميكولاييف. أيضاً، عمدت، في 27 نيسان، إلى تعيين إدارة مدنية للمقاطعة موالية لها، وعملت على توفير الأمن في المنطقة بما سمح باستئناف عمل البنوك والمطاعم ووسائل النقل العامّة، فيما شرعت القنوات التلفزيونية والإذاعية الروسية بالبثّ في المنطقة. وبعد قطع كييف اتّصالات الهاتف المحمول والإنترنت، مطلع الشهر الحالي، جرى توصيل خيرسون وسكادوفسك ونوفايا كاخوفكا بشبكة الإنترنت الروسية، واستعادة الاتصالات المحمولة بمساعدة متخصّصين روس، في حين أُعلن أُن المفاوضات جارية الآن بشأن دخول شركات الهاتف المحمول الروسية. ولم يقتصر الأمر على ما تَقدّم، بل بدأ تدريس المناهج الروسية في مدارس خيرسون، في وقت أعلنت سلطات المقاطعة الجديدة أن سكّان المنطقة قد لا يدفعون مؤقّتاً بدلات مالية مقابل الإسكان والخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء وغيرها، لأن المدفوعات تذهب إلى المصارف الأوكرانية، كاشفة أنه في المستقبل ستجري إعادة حساب الأسعار. وعلى خطّ موازٍ، أعيدت العلاقات التجارية مع شبه جزيرة القرم، واستُؤنفت حركة سكك الحديد، لتقتصر حالياً على الأغراض العسكرية، مع التأكيد أن حركة الركاب ستعود قريباً بعد ضمان سلامتها، وهو ما لم يمكن أن يحصل إلّا بعد السيطرة على نيكولاييف وأوديسا.
كلّ تلك الخطوات اعُتبرت تمهيداً لضمّ المقاطعة إلى الأراضي الروسية، وهو ما اتَّهمت كييف، موسكو، صراحةً به. لكن نائب رئيس الإدارة العسكرية المدنية لمنطقة خيرسون، كيريل ستريموسوف، استبعد تحقُّق هذا السيناريو، مؤكداً أن الأولوية الآن هي لتطوير المنطقة اقتصادياً، ومشدّداً في الوقت نفسه على أن «عودة المنطقة إلى سيطرة أوكرانيا بعد تحريرها من القوميين الأوكرانيين المتطرّفين غير واردة، بل مستحيلة». لكن بعد أيام من ذلك، أعلن ستريموسوف عن نيّة سلطات الإقليم الجديدة التقدّم بطلب ضمّ المقاطعة إلى قوام روسيا، قائلاً إنه «يجب أن تعود الأراضي الروسية في الأصل إلى مسارها التاريخي». وفي ترجمة سريعة لهذا الطلب، قرّرت السلطات العمل بشعار النبالة التاريخي لمنطقة خيرسون، عندما كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية (تمّت الموافقة عليه في 7 تشرين الأول 1803). وقال ستريموسوف إن المنطقة «تعتزم العيش كجزء من الاتحاد الروسي، وسنتحوّل إلى شيء قريب من شبه جزيرة القرم من حيث وتيرة التنمية». وأضاف: «لقد حدّدت منطقة خيرسون مسار الانضمام إلى قوام روسيا ولن تنحرف عن المسار المنشود... ليس لدينا طريق آخر. من الصعب تحديد المدّة التي ستستغرقها الفترة الانتقالية، ولكن بحلول نهاية العام سنكون جاهزين ليس فقط على مستوى الرأي العام، ولكن أيضاً على مستوى التشريع للانتقال السلس».
أكد الكرملين أن انضمام خيرسون إلى روسيا أمر يحدّده سكّان المقاطعة


وإذا كان موقف الكرملين قد ترك الباب مفتوحاً أمام الاحتمالات كافة، فإن سيناريو انضمام خيرسون إلى روسيا لا يزال محلّ نقاش على مستوى المسؤولين والخبراء الروس. وفي هذا السياق، أكد النائب الأول لرئيس «لجنة مجلس الاتحاد للشؤون الدولية»، فلاديمير دجباروف، أن هذه المسألة غير مطروحة حالياً، عازياً ذلك إلى أن «الأولوية الآن هي للعملية العسكرية وضرورة استكمالها حتى تحقيق النصر». واعتبر دجباروف أن مستقبل خيرسون «سيجري تحديده في سياق الأحداث، والمواطنون أنفسهم هم من يقرّرون». بدوره، أعرب الممثّل الدائم لشبه جزيرة القرم لدى الرئيس الروسي، جورجي مرادوف، عن ثقته بأن «أراضي جنوب أوكرانيا السابقة»، والتي سيطر عليها الجيش الروسي، ستصبح جزءاً من روسيا. وأضاف مرادوف أن المناطق الجنوبية الشرقية التي كانت «موهوبة» لأوكرانيا، وأيضاً أراضي توريدا التاريخية (كانت تضمّ شبه جزيرة القرم والبرّ الرئيسي بين أسفل نهر دنيبر وسواحل البحر الأسود وبحر آزوف) «كانت دوماً روسية». ويُجمع الخبراء الروس على أن مستقبل الأراضي الأوكرانية الواقعة تحت السيطرة الروسية، سيكون بيد موسكو، مستدركين بأن ضمّ خيرسون إلى روسيا مرهون بإرادة السكّان. كما يُجمعون على أن هذه المقاطعة تُعدّ أساسية لرفع الحصار عن القرم وتطوير العلاقات الروسية مع دونباس، لافتين إلى أن مجموع القرارات العسكرية والاقتصادية المتّخذة إلى الآن تدفع في اتجاه سيناريو توحيد المنطقة مع روسيا، إلّا أنهم يشدّدون على ضرورة العمل في الوقت الحالي على إقامة حياة طبيعية في المنطقة وتنفيذ برامج اجتماعية، بما يتيح إقناع مزيد من الشرائح السكّانية بفكرة تحوّل مناطقها إلى جزء من روسيا.
في هذا الوقت، تُواصل موسكو العمل على تحقيق أهداف المرحلة الثانية من العملية العسكرية، عبر إسقاط كامل منطقة الدونباس وجنوب أوكرانيا، وفقاً لتصريحات القائم بأعمال قائد المنطقة العسكرية المركزية الروسية، رستم مينيكايف، الذي أوضح أن ذلك «سيوفّر ممرّاً برّياً إلى القرم، وإمكانية التأثير في القضايا الحيوية للاقتصاد الأوكراني»، فضلاً عن فرصة الوصول إلى إقليم ترانسنيستريا في مولدوفا (الجمهورية المعلَنة من طرف واحد والموالية لروسيا).
وبناءً على كلّ ما تَقدّم، يتوقّع الخبراء الروس أن تتمكّن موسكو، في نهاية المطاف، من تحقيق هدفها المتمثّل في السيطرة على جميع أنحاء المنطقة التي كانت معروفة باسم «نوفوروسيا» إبّان عهد الإمبراطورية الروسية في القرن الـ18، والتي تمتدّ على كامل الشريط الجنوبي من أوكرانيا، من البحر الأسود والمناطق المحاذية له، وصولاً إلى أوديسا، مروراً بدونباس وزابوريجيا وشبه جزيرة القرم.