لندن | واجهت مارين لوبان، مساء أمس، إمانويل ماكرون، في مناظرة كانت تدرّبت لها جيداً مع أحد مستشاريها - خرّيج الأكاديمية الوطنية العليا للإدارة، شأنه شأن ماكرون -، حتى لا تتكرّر تجربة 2017، عندما ظهر منافسها في المناظرة التي شاهدها حينذاك حوالي 17 مليون شخص، أكثر ذكاءً وجاذبية. وبمعزل عمّا سيستخلصه المراقبون من هذه المواجهة ذات الأهميّة البالغة، فالأكيد أن الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والتي ستُجرى في 24 نيسان الحالي، لن تكون سهلة على الرئيس الحالي، الذي أمل بنقلة سريعة وسهلة إلى خمس سنوات مقبلة في قصر الإليزيه، فإذا به يجد نفسه إزاء مرشّحة لا تفتأ الاستطلاعات تُضيّق الفارق بينها وبينه، وهو ما ستكون له سواءً ربحت لوبن أم لا، انعكاسات حيوية على المشهد الفرنسي خصوصاً، والغربي عموماً
مع ظهور نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية قبل عشرة أيام، بدت خطّة فريق حملة الرئيس إيمانويل ماكرون وكأنّها تسير على ما يُرام للتجديد له لخمس سنوات تالية، إذ إن ماكرون تفوّق على جميع المرشحين بأكثر من 27% من مجموع الأصوات، بينما حصدت أحزاب السلطة التقليدية (الاشتراكيون - يسار الوسط، والجمهوريون - يمين الوسط) أسوأ نتائجها التاريخية، وسقط إريك زيمور، مرشّح أقصى اليمين، سقوطاً ذريعاً، فيما تكفّلت حروب اليسار الأهلية في إضعاف جميع مرشّحيه - على رغم العرض الجيّد ولكن المتأخّر الذي قدّمه جان لوك ميلينشون -. وبالتالي، لم يتبقّ في الساحة سوى ماريان لوبان، زعيمة حزب «الجبهة القومية» اليميني، التي كان ماكرون قد هزمها بسهولة نسبية في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية السابقة (2017) بنسبة 66% مقابل 34. لكن ما إن ظهر أوّل استطلاع للرأي بشأن اتّجاه نيّات التصويت في المرحلة الثانية، حتى دبّ الذعر في معسكر الرئيس، حيث أصبحت إعادة انتخاب ماكرون فجأة موضع شكّ، خصوصاً أن سلسلة من الاستطلاعات الأخيرة عادت وضيّقت المسافة أيضاً بين لوبان ومنافِسها (47% للأولى مقابل 53% للثاني)، الأمر الذي أفزع الأسواق الماليّة، وقرع أجراس الإنذار في بروكسل (مقرّ الاتحاد الأوروبي) وفي واشنطن أيضاً. والجدير ذكره، هنا، أن هامش الخطأ بشأن نيّات التصويت في الجولة الثانية في فرنسا عادة ما يكون أوسع مقارنةً بالجولة الأولى، وأن نتائج لوبان في الاستطلاعات الحديثة جاءت أفضل بكثير ممّا كانت عليه في الفترة التي سبقت الجولة الثانية من الانتخابات الماضية (2017).
كان من المتوقّع أن ينطلق ماكرون بثقة نحو تجديدٍ مضمون، وبالتالي نحو استمرارية في السياستَين الفرنسية والأوروبية خصوصاً، والغربية عموماً. ومن هنا، بالكاد قضى الرئيس العتيد أيّ وقت في الحملة الانتخابية، وتأخّر حتى في الإعلان رسمياً عن ترشّحه إلى ما قبل أسابيع قليلة من موعد التصويت في الجولة الأولى. وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك أيّ شك في أنه سيترشّح مرّة أخرى، إلّا أن التأخير قُرئ كأحد أعراض تجنّبه مسائل السياسة الداخلية غير المريحة له، مقابل تفرّغه شبه الكليّ للعب أدوار على المسرح الديبلوماسي العالمي، بوصفه «زعيم» أوروبا بعد انسحاب أنجيلا ميركل من المسرح وخروج بريطانيا من الاتحاد، وكبير المفاوضين الغربيين مع روسيا حول أوكرانيا. إلّا أن أداء لوبان القوي يَعِد بكارثة مقبلة لإدارة ماكرون وداعميه عبر الحدود، حتى في حال فوز الرئيس الحاليّ بهامش ضئيل، إذ إن ذلك سيعني تزايد احتمالات فقدانه الأغلبية في الانتخابات البرلمانية التي ستجري بعد شهرين، وبالتالي اهتزاز سيطرته على مفاصل السلطة. كما أن فوز لوبان، في الرئاسية أو البرلمانية، سيدعم صعود التيّارات اليمينيّة في جميع أنحاء أوروبا، ويمنحها مزيداً من الذخيرة لإثارة مصاعب إضافية للبيروقراطية الأوروبية في بروكسل، وهي التيّارات التي ما زالت منتشية بانتصاراتها الأحدث: التجديد للرئيس فيكتور أوربان في هنغاريا وفوز حزبه بالأغلبيّة المطلقة في البرلمان، والنتائج اللافتة التي حقّقها حزب «فوكس» الإسباني اليميني المتطرّف في الانتخابات المحليّة لمنطقة قشتالة وليون في إسبانيا، فضلاً عن وجود اليمين في السلطة في بولندا، وحضوره في رومانيا وهولندا والدنمارك وإيطاليا. ويمتدّ القلق، أيضاً، إلى الجانب الآخر من الأطلسي، حيث تخشى الولايات المتحدة من تضعضع وحدة الصفّ الغربيّ في المعركة المفتوحة مع روسيا، حيث يبدي اليمين الأوروبي - باستثناء البولندي - تمنّعاً ملحوظاً تجاه خطط واشنطن للتصعيد، وتوسيع نطاق الحصار على موسكو.
فوز الرئيس الحاليّ بهامش ضئيل سيعني تزايد احتمالات فقدانه الأغلبية في الانتخابات البرلمانية


لوبان، وإن واجهت شابّاً جذّاباً قبل خمس سنوات لم تكن تعرف نقاط ضعفه الاستراتيجية، فإنها اليوم تمتلك قائمة طويلة من تلك النقاط: أزمة التضخّم وارتفاع تكاليف المعيشة، وتفاقم مشكلات الهجرة واللاجئين، وقرار الحكومة رفع سنّ التقاعد، وانتشار الجريمة وتردّي هيبة القانون، وإهمال المناطق الطَّرفيّة لمصلحة العاصمة، والأهمّ من ذلك كلّه «الازدراء» الذي يُظهره للطبقة العاملة، والغطرسة التي صارت سمة ماكرون الغالبة في تعامله مع الفرنسيين الأقلّ حظاً (الذين وصفهم بأنهم «أشخاص لا قيمة لهم»)، أو للمتقاعدين (الذين «ليس لديهم الحق في الشكوى» من التراجع في دخولهم)، أو للعمّال المضربين («الأميين» و«المتقاعسين»). وتعلم لوبان أن فرصتها (الأخيرة بحسب حملتها) للوصول إلى الإليزيه هذه المرّة، تعتمد على نجاحها في استقطاب الجمهور الذي صوّت خلال الجولة الأولى لليسار، وهؤلاء يشكّلون حوالي ربع مجموع الناخبين. وهي بتخفيف لهجة خطابها الإيديولوجي وتموضعها يساراً في ما يتعلّق بالهموم المعيشية للمواطنين، قد تنجح في استقطاب جزء هامّ منهم للتصويت لها، احتجاجاً ضدّ ماكرون وسياساته الليبرالية، أو أقلّه بالامتناع عن التصويت، والذي يصبّ أيضاً في مصلحتها، خصوصاً أن هنالك غلبة لمزاج قوي من معاداة السياسة في فرنسا، قد ينعكس مقاطعة في اللحظة الأخيرة. وبحسب الاستطلاعات، فإن ثلاثة أرباع الفرنسيين يعتقدون بأن السياسيين «فاسدون»، ويشعر 87% منهم أن الحكومة لا تهتمّ بـ«أشخاص مثلهم». كما ثمّة أيضاً قلق واسع النطاق من الاتجاهات الغالبة على الدولة الفرنسية الحديثة، حيث تقول الغالبية إنها لم تعد تشعر بأنها «في وطنها» في فرنسا، وإن الأمّة الفرنسية في انحدار. ومثل هذا المزاج سيكون في صالح المرشّح المناهض للمؤسسة - لوبان -.
وكانت بروكسل قد منحت لوبان بعض المساعدة قبل ليلة الحسم، وذلك بعدما وجّهت إليها تهمة الاختلاس خلال فترة عملها في البرلمان الأوروبي. وقد ضحكت لوبان يوم الإثنين الماضي عندما تمّ طرح الأمر عليها، وقالت: «أنا معتادة على تكتيكات الاتحاد الأوروبي للتحايل على الفرنسيين قبل أيام من الجولة الثانية، لكنهم لن ينخدعوا». وكانت وُجّهت اتّهامات مماثلة إلى لوبان في المرحلة نفسها من انتخابات عام 2017، وهو ما دفع لوران جاكوبيلي، المتحدّث باسمها إلى القول: «في كل مرّة تكون فيها (لوبان) مرشّحة، يهبّ الاتحاد الأوروبي لمساعدة جنديّه الصغير». كما سارع فريق حملة لوبان إلى الترويج لتقرير نشرته «نيويورك تايمز» الأميركية (يوم الخميس الماضي) ذكرت فيه أن بروكسل تُخطّط لحظر المنتجات النفطية الروسية، ولكن ليس قبل الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية، وذلك «لضمان أن التأثير على الأسعار لن يخدم المرشحّة الشعبوية مارين لوبان ويضرّ بفرص الرئيس إيمانويل ماكرون في إعادة انتخابه».