ينطلق النقاش في مشروع قانون «وضع ضوابط استثنائية ومؤقّتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية» من زاويتين؛ أثره على الودائع سواء لجهة السحوبات وقيمتها وما سيطال المودعين من إجراءات متزامنة معه مثل الاقتطاع من الودائع، والجهة التي يؤمّن لها الحماية: فهل هو يحمي المصارف من دعاوى الإفلاس قبل إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتقرير من يستمر ومن يفلس، أم أنه يوسّع صلاحيات قوى السلطة الفاسدة والمسؤولة عن الانهيار؟لا شكّ بأن العبارة المستعملة لتوصيف القانون فيها دلالة ما على وظيفته وأهدافه، وإن كانت المواد المقترحة فيه، قد لا تغطّي هذه الأهداف. لكن كل النقاشات الدائرة لا تتعلق بالوظيفة الأساسية التي يفترض أن يقوم بها مشروع قانون الـ«كابيتال كونترول» وهي: حماية المخزون الاستراتيجي بالعملات الأجنبية وتقرير أولوية استعمالها ضمن أهداف محدّدة تخدم عملية النهوض. هذا النقاش غير دائر اليوم، بدليل أن مصرف لبنان أنفق 20 مليار دولار منذ سنتين لغاية اليوم ولم يجر أحد أي تدقيق بآليات الإنفاق إن اعتبرنا أن أسبابه مبرّرة، ولم يسأل أحد عن الأهداف طالما أن الخروج من نفق الأزمة يتطلب علاقة خضوع مع صندوق النقد الدولي لا نحصل بموجبها على أكثر من 4 مليارات دولار و«ختم» لتسوّل واقتراض المزيد. في الواقع، تمثّل احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية الجزء الأساسي من مخزون لبنان الاستراتيجي. هي المخزون السائل، أو السيولة القابلة للاستعمال سريعاً من أجل تمويل استيراد السلع والخدمات الضرورية. هذا المخزون لم يعد يتجدّد منذ إفلاس لبنان في مطلع 2019. الإفلاس بدأ مع توقف المصارف عن دفع الودائع للمودعين، أو التحايل عليهم للامتناع عن دفعها، ويوم توقف مصرف لبنان عن دفع الودائع للمصارف وتخفيف بيع الدولارات لهم ولحساب زبائنهم. هذا الأمر لم يبدأ لا في 17 تشرين 2019، ولا في آذار 2020 يوم أعلنت الدولة التوقف عن سداد اليويوربوندز، بل بدأ في الأشهر الأولى في 2019، عندما قرّرت المصارف أن تمارس قيوداً وضوابط استنسابية ومقنّعة على التحويلات والسحوبات من خلال إغراء المودعين أو ردّ جزء من ودائعهم واحتجاز الأجزاء الأخرى...
لدينا قانون لا يمكن تطبيقه في الأيام العادية بل يفترض أن نلزم أنفسنا على تطبيقه لأننا في عوز شديد


لكن ليست السيولة لدى مصرف لبنان هي وحدها مخزون لبنان الاستراتيجي، بل هي أيضاً التدفقات الآتية من الخارج، سواء تلك الآتية تحت مسمى مساعدة النازحين السوريين، أو تحويلات المغتربين إلى أسرهم في لبنان، أو أي تحويلات أخرى مثل حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي في مواجهة «كورونا». طبعاً الذهب هو مخزون، لكنه ليس مخزوناً سائلاً، أو يمكن تسييله بسهولة إذا كان موجوداً بكامله أصلاً. المهم، الإجراءات التي يفترض إدارتها تتعلق بهذا المخزون من أجل تغطية حاجات المجتمع ضمن خريطة أولويات. بهذا المعنى، يصبح للضوابط والقيود جدوى، لكن بأيّ شكل؟ إدارة أيّ مخزون في وقت أزمة شديدة، في ظل أضعف قدرة على تجديده، تعني أنه يجب الإمساك به والتحكّم بقوّة. فمن الأجدر على القيام بذلك؟ إنها السلطة.
في النتيجة، لدينا قانون لا يمكن تطبيقه في الأيام العادية، بل يفترض أن نلزم أنفسنا على تطبيقه لأننا في حالة عوز شديد، ولدينا سلطة تدّعي بأنها تمثّل مصالح الشعب ولديها القدرة على معرفة مصلحته أكثر من أفراده. لذا، هو قانون استثنائي، وهو من نوع القوانين الزجرية التي تفرض على كل فرد وكل مؤسّسة خاصة أو عامة مهما كان شكلها أو نوعها أو حجمها أو نفوذها، أن توافق طوعاً أو جبراً على الحدّ الأدنى الذي تحدّده السلطة نيابة عن مصالح الشعب، من أجل الاستمرار في البقاء. الأمر لا يتعلق بالمودعين، ولا بالمصارف، ولا بالانتخابات، ولا بالسلطة، بل يتعلق بحماية المجتمع من أزمة نفاد السيولة بالعملة الأجنبية. من مصلحة هذا المجتمع، ألّا يسحب كيفما يريد من ودائعه، ومن مصلحته ألّا يستورد ويستهلك ما يشاء من السلع والخدمات، ومن مصلحته أن يلغي كل الأعمال التي تمتّ إلى الرفاهية بصلة وأن يكتفي بالحد الأدنى للمعيشة، ومصلحته ألّا يبيع أرضه للخارج... المؤسف أنه رغم تجرّع المجتمع، بالطريقة الصعبة، هذا النوع من الحرمان الضروري للاستمرار في البقاء، وذلك خلال ارتفاع سعر الصرف وتضخّم الأسعار بنسبة 800%، إلا أنهم يواصلون النقاش بين حدَّي الدفاع عن المودعين أو عن المصارف. للمفارقة، عليهم أن يدافعوا عن المخزون الذي يمثّل أولويات معيشتهم ومستقبلهم. هو ذاك المخزون الذي أنفقت منه السلطة بيد الحاكم رياض سلامة، نحو 20 مليار دولار. هذا النقاش لم يتبنّاه أيّ طرف من حزب المصرف، أو أيّ طرف من جماعات المودعين، لا بل إن خطّة الحكومة مع صندوق النقد لم تمرّ عليه، بل ستنطلق بزخم نحو تطبيق قانون لا نعلم ماذا سيحمي وكيف. هل تعلم الحكومة كم بقي من هذا المخزون لدى مصرف لبنان؟ هل حدّدت أولويات الإنفاق؟ لم يحصل أيٌّ من هذا، بل ها هي اليوم تناقش تسديد 220 مليون دولار هي في معظمها اشتراكات لمؤسّسات دولية، فيما مصرف لبنان ينفق على «ذوقه» من المخزون الباقي.