قبل شهرين، لم يكن على المرشّح «التغييري» ضدّ «المنظومة الفاسدة» سوى أن يتّصل بالوكلاء المحليين لأصحاب التمويل الأجنبي، عارضاً الـ cv التي تخوّله خوض الاستحقاق الانتخابي، حتى إذا ما نال الاستحسان، تكفّل هؤلاء بالباقي: اللوجستيات وتكاليف الحملة حتى الوصول إلى ساحة النجمة. والهدف: الحصول على كتلة نيابية في البرلمان المقبل تشكّل بيضة قبان أميركية ــــ أوروبية تحدث تغييراً في الحياة السياسية.منذ شهرين، تغيّرت الأحوال فجأة. قلّ التمويل، وباتت الاتصالات، هذه المرة، تأتي من الوكلاء أنفسهم إلى المرشحين «الدسمين» تطلب منهم المساهمة في تمويل الحملات. باختصار، «الثورة بلا فلوس» منذ شهرين. وبعض «المنصّات» التي كانت تعد بالتجديد عاجزة حتى عن تجديد الـ«بانويات» التي رفعتها بعدما أفسدتها الأمطار والعواصف الأخيرة.
الأسباب كثيرة، ليس أهمها تلمّس السفارات والسفراء الأجانب عجز هؤلاء عن حشد أكثر من بضع مئات من «الجماهير» في التظاهرات والأنشطة التي دعوا إليها، وبعضها كان حضوره أقل من عدد الداعين إليه. وإنّما، أيضاً، بسبب الانقسام الشديد الذي يسود صفوف الفريق «السيادي». سعد الحريري مُبعَد عن الحياة السياسية قسراً، وهو من منفاه لم يشأ أن يترك جمهوره «هدية» للحلفاء، ما زاد إرباكهم، وجعل معراب - مثلاً - التي كانت تخطط لحصد أكبر كتلة نيابية في «الجمهورية القوية»، تكافح لتسمية مرشح غير حزبي في عكار، وتتسلح في بعلبك ــــ الهرمل بـ... عباس الجوهري لإلحاق الهزيمة بحزب الله وسلاحه! فيما كان وليد جنبلاط الأكثر صدقاً عندما باغت الحريري يوم أبلغه الأخير قراره العزوف عن المشاركة في الانتخابات، بسؤال: «شو بدي إعمل بالجبل».
في المقابل، نظّم حزب الله صفوفه، وبدا أنه مستعدّ لمعركة أعلن أمينه العام صراحة أنها معركة إنجاح الحلفاء... كل الحلفاء، في كل الدوائر.
قبل اندلاع الحرب الروسية ــــ الأوكرانية، كان هذا كافياً لكي تخبو حماسة دول إقليمية ودولية لإجراء انتخابات لن يترتّب عليها أيّ تغيير في موازين القوى، وتعيد تأكيد شرعية حزب الله وحلفائه، وتحفظ لهم، على الأقل، حجماً يخوّلهم أن يبقوا شركاء أساسيين في اللعبة السياسية.
ما بعد أوكرانيا مياه كثيرة جرت في النهر. جُمِّدت التفاهمات الكبرى، وخصوصاً في ملفين أساسيين ومترابطين يمكن لواشنطن بسببهما التكيّف مع فشلها في ضرب الشرعية التمثيلية لحزب الله وحلفائه: ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة والاتفاق النووي.
في الملف الأول، جاء الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين بعرض «ليس أفضل الممكن»، وفق مصادر مطلعة، وإن كان «قابلاً للنقاش ويمكن تحسينه». ولكن، ليس تفصيلاً، في هذا السياق، موقف ثنائي حزب الله وحركة أمل من رفض التمثّل في لجنة طُرحت للبحث فيه.
وفي الملف الثاني، دخلت المطالب الروسية على خط الاتفاق النووي، ما أدى إلى إرجاء توقيعه. بدا الأمر بداية كأنه محاولة من موسكو لوضع العصيّ في دواليب الحلّ، قبل أن يظهر التناغم أول من أمس في لقاء لافروف ــــ عبد اللهيان، وإعلان روسيا حصولها على ضمانات أميركية بألّا تؤثر العقوبات المستجدّة على تعاونها مع طهران. رغم ذلك، ليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا كافياً لدفع عجلة المفاوضات وإعلان الحل النهائي قريباً. صحيح أن في الحل مصلحة واضحة لطهران، لكن التطورات الجيوسياسية التي ترسم مستقبل عالم جديد تصبّ أيضاً في مصلحة خيارها الاستراتيجي بالتوجه شرقاً. إيران، الموقع الجغرافي والحجم والدور، أكثر أهمية اليوم في الصراع الروسي - الأوكراني، وهو في جوهره صراع شرقي - غربي. الصواريخ التي ضربت أربيل الأحد الماضي جاءت بعد وقت طويل من الامتناع عن الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية في انتظار «التوقيت المناسب». والواضح أن التوقيت اليوم مناسب جداً للإيرانيين.
قد لا يقبل الأميركي بعد «ثورة» وحصار خانق إعطاء خصومه فرصة تجديد شرعيّتهم الشعبيّة قبل تفعيل التفاهمات الكبرى


في المبدأ، يُفترض أن تدفع الحرب في أوكرانيا الأميركيين إلى التسريع في ملف ترسيم الحدود لتسريع استخراج النفط والغاز من الحوض الشرقي بما يعوّض جزءاً من الغاز الروسي. لكن هؤلاء يدركون أن الروسي، الموجود بقواعده العسكرية على ساحل المتوسط، شريك حتمي في أي حل، كما هو شريك حكمي في البلوكات اللبنانية المحاذية للحدود السورية. هنا، يمكن فهم القرار الاستراتيجي الروسي بالمشاركة في الحرب السورية، والذي لولاه لكان شرق المتوسط اليوم بحيرة أميركية قادرة على تعويض ما يصل إلى 20 في المئة من الغاز البديل للغاز الروسي.
في المحصلة، تبدو التفاهمات الكبرى مؤجّلة، والملفان الأهم بالنسبة إلى واشنطن، النووي والترسيم، مجمّدان إلى حين. قد يرضخ الأميركي لـ«اجتياح» حزب الله وحلفائه المجلس النيابي إذا ما كان ضامناً لتسوية في الإقليم، ولأخرى على الحدود. لكن يصعب تخيّل أن يقبل بعد «ثورة» وحصار خانق، أن يعطي خصومه فرصة تجديد شرعيتهم الشعبية والتمثيلية من دون مقابل. لذلك، ربما لا يجد ضيراً في إرجاء الانتخابات في انتظار اتضاح المشهد الدولي، وتمديد الحال الراهنة بإبقاء البلد ساحة ضغط على المقاومة وجمهورها وحلفائها بذريعة حماية الفساد والفاسدين. أما كيف؟ فلن يعدم الأميركيون إيجاد الذريعة. ثمة «وديعة» على رأس المصرف المركزي قادرة، بالتعاميم وحجب الاعتمادات، على رفع درجة الاحتقان الاجتماعي والاحتجاج الشعبي بما يسمح بتعطيل أي استحقاق في انتظار تفعيل التفاهمات الكبرى.