لندن | لغاية الأسبوع الماضي، عاشت البرتغال (10 ملايين نسمة) نسَقاً مختلفاً من السياسة، عن الصيغة الغالبة في معظم أوروبا، طوال العقد الفائت. ففي تلك الجمهورية، الواقعة في أقصى الجنوب الغربي للقارة، لم ينشأ حزب سياسي يميني شعبوي كبير، بينما نجا "الحزب الاشتراكي" من الخواء الذي التهم أحزاب "الاشتراكية الديموقراطية" في كلّ أقطار القارّة القديمة تقريباً، لينتهي هذا النسق إلى ما أفرزته الانتخابات العامّة الأخيرة (30 كانون الثاني)، إذ حصد حزب "تشيغا" اليميني (بالعربيّة "كفى")، في تلك الانتخابات، ما مجموعه 7.2% من مجموع الأصوات (مقارنة بـ1.2% في الانتخابات السابقة)، ليرتفع عدد مقاعده في البرلمان إلى 12 ويصبح ثالث أكبر كتلة، بعد "الحزب الاشتراكي" - يسار الوسط - الذي سيطر على 117 مقعداً (من مجموع 230)، و"الحزب الديموقراطي الاجتماعي" - يمين الوسط - (76 مقعداً). وكان "تشيغا"، الذي أسّسه أندريه فينتورا، المعلّق الرياضي التلفزيوني السابق، والمنشقّ عن "الحزب الديموقراطي الاجتماعي"، في عام 2019، قد سجّل إشارات مقلقة إلى تصاعُد شعبيّة اليمين البرتغالي، عندما حصل زعيمه على ثقة ما يقرب من 12% من الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، التي جرت العام الماضي. ويبدو أن هذا الأداء القويّ نسبيّاً لليمين، يُعدّ انعكاساً مباشراً لتجذُّر الانقسام العميق بين النُّخب البرجوازية - التي يُنظر إليها على أنها فاسدة - والطبقات العاملة، منذ بعض الوقت، والذي كان لا بدّ أن يجد متنفّساً للغضب الشعبي في أحزاب متطرّفة خارج نطاق الوسط (الرمادي). وبما أن "الحزب الشيوعي البرتغالي"، الذي من المفترض أن يملأ هذا الفراغ، يعاني من فقدان الوزن وضياع البوصلة، كما حال كلّ الأحزاب الشيوعية في الغرب، فقد كان صعود تيارٍ يمينيّ شعبوي أمراً محتّماً، ومسألة وقت لا أكثر. وهكذا، نجح "تشيغا"، الذي تجنّب إلى حدّ كبير وصمة العار المرتبطة بالحركات اليمينية المتطرّفة التقليدية - فينتورا بدأ حياته السياسية في حزب وسطيّ التموضُع -، في جذب أصوات كثيرين من الأقلية (الرّوما) التي تعاني العنصرية والتحيُّز الاجتماعي ضدّها، كما أصوات بعض الناخبين في مناطق أحزمة الفقر، المعتمِدة بشكل أكثر من غيرها على التقديمات الاجتماعية.
في المقابل، لم يكتفِ "الحزب (التقدّمي) الاشتراكي"، الذي يقوده أنطونيو كوستا، رئيس الوزراء البرتغالي، بتجنُّب المصير السيّئ للأحزاب العمّالية والاشتراكية الديموقراطية، في غير بلد أوروبي (بريطانيا، هولندا، فرنسا، ...) فحسب، بل فاز بنتيجة مفاجئة بحوالى 42% من الأصوات (بزيادة خمس نقاط مئويّة عن عام 2019)، منحته الغالبية في البرلمان، والصلاحيّة لتشكيل حكومة منفرداً، من دون الحاجة إلى بناء ائتلاف مع كُتل أُخرى. وتُعدّ هذه النتيجة جيّدة، لحركة بدت للجميع، في السنوات الخمس الأخيرة، وكأنّها تسير في مسارٍ انحداري. وكانت الفجوة في تأييد الناخب البرتغالي، بين "الاشتراكيين" ومنافسيهم "الديموقراطيين الاجتماعيين"، قد تقلّصت في استطلاعات الرأي على مدى الشهرَين الماضيين، حتى وصلت إلى درجة التعادُل التقني قبل أسبوع واحد فقط من الانتخابات. ولكن في الليلة الحاسمة، زاد "الاشتراكيون" من تفوّقهم على "الديموقراطيين" في صناديق الاقتراع، من تسع نقاط مئويّة إلى أكثر من 12 نقطة، أهّلتهم للحصول على الغالبية.
فاز الحزب «الاشتراكي» بنتيجة مفاجئة منحته الغالبية في البرلمان والصلاحيّة لتشكيل حكومة منفرداً


ويقول خبراء معنيّون بالشأن البرتغالي إن كتلة وازنة من الناخبين الوسطيين في البلاد (تُقدّر بواحد من كلّ خمسة أشخاص يحقّ لهم التصويت)، عادة ما تتّخذ قرارها خلال الأسبوع الأخير قبل فتح صناديق الاقتراع. ويشير الخبراء إلى أن هؤلاء ربّما اتّجهوا نحو يسار الوسط (الاشتراكي) جزعَاً من التقدُّم الملموس لليمين، إضافة إلى تقلُّص قاعدة تأييد الحلفاء على يسار "الحزب الاشتراكي"، أي الكتلة اليسارية (التي انخفضت من 9.7% في عام 2019، إلى 4.5% هذه المرّة)، و"الحزب الشيوعي" (من 6.5% إلى 4.4%). ويُعتقد بأن غالبية الذين سحبوا تأييدهم من أحزاب اليسار الراديكالي، صوّتوا لـ"الاشتراكي". لكنّ هذه التفسيرات المعتمِدة على تكتيكات التصويت العقابي ضدّ التيارات الأخرى، تبقى جزئيّة، ولا تبرِّر بالمطلق صعود "الاشتراكية الديموقراطية" في البرتغال، في الوقت الذي تآكلت فيه قاعدة تأييدها، خلال العقدَين الماضيَين، في كثير من الدول الأوروبية.
والحقيقة أن التحوّلات الاجتماعية العميقة في أوروبا، منذ بداية القرن الحالي، بما في ذلك تقلُّص حجم الطبقة العاملة الصناعية لمصلحة صعود الطبقة الوسطى - التي تبتعد تقليدياً عن الأحزاب اليساريّة، وتعبّر عن نفسها من خلال التيّارات اليمينية المتطرّفة والأحزاب الخضراء واليسار الجديد -، والسياسات الحذرة تجاه تبنّي مناهج اشتراكية حقيقية في مواجهة رأس المال، أفقدت تلك الأحزاب ناخبيها ومعها قيمتها كبديل سياسي. لكنّ البرتغال، بفقرها، أقلّه مقارنة بوسط أوروبا وغربها، بقيت شبه منفصلة عن هذه التحوّلات، إذ لا يزال عمال الإنتاج يشكّلون حصّة وازنة من الناخبين فيها، حتى عند اقتصار المقارنة على دول الجنوب الأوروبي. ولم يُكمل التعليمَ الثانوي في البلاد سوى نحو 55% من القوة العاملة، وهو أدنى مستوى في الاتحاد الأوروبي. ولا يزال البُعد الاقتصادي ودور الدولة هناك، المسألة الأهمّ في الصراعات الانتخابية. ولذا، يبدو أن الكثيرين وجدوا في كوستا نوعاً من "الأيدي الآمنة": رجل دافئ وجذّاب، ولكنه أيضاً قادر على حماية الأجور والمعاشات التقاعُدية، مع الاستمرار في الحفاظ على الانضباط المالي من دون خضّات.
ومع ذلك، فإن الحصول على ثقة الناخبين شيء، وإدارة الأوضاع في البلاد للسنوات الخمس المقبلة، شيءٌ آخر تماماً. فالبُرتغال بلد يعاني تفاوُتاً عالياً في الدخل وتوزيع الثروة بين طبقاته الاجتماعية، وتفتقر قِواه العاملة إلى التأهيل، بينما الإنتاجية فيه منخفضة بأكثر من 25% مقارنة بمتوسّط إنتاجيّة دول الاتحاد الأوروبي. كما أن الاستثمار في التعليم والبحث ورعاية الأطفال والصحّة، بقي مجمّداً منذ الأزمة الرأسمالية العالمية في عام 2008. وبغياب برنامج واضح للحكومة الاشتراكية المقبلة، التي تدير ميزانية بلاد مُثقلة بالديون (أكثر من 130% من الناتج المحلّي الإجمالي) وذات قدرة مالية محدودة، سيجد البرتغاليّون سريعاً أن السياسات الرمادية المغلّفة بلَبوس الاشتراكية، ستكون قادرة ربّما على تلبية الاحتياجات الاجتماعية الفورية لدوائرها الانتخابية، على المدى القصير، إلّا أن أيّاً من مشاكل البلاد البنيويّة لن تُحلّ، لا على المدى المتوسّط ولا الطويل. بالتالي، سيأتي وقت يقرّر فيه الناخبون معاقبة الاشتراكيين الوسطيين، تماماً كما فعل الناخبون في البرّ الأوروبي مِن قَبلهم.