يحتّم كتاب «العرض الأخير: سيرة «سيلَما» طرابلس»، للكاتب والمخرج السينمائي اللّبناني هادي زكاك السؤال عن أهمية توثيق الماضي، وبناء استمرارية بين الأزمنة، بهدف إعادة النظر في الواقع الراهن. يتعدّى «العرض الأخير» (زاك فيلمز ـــ ينكبّ أيضاً على فيلم وثائقي عن الصالات في طرابلس) السّرد الإسمي، والتوثيق التاريخي، ليشكّل قراءة سوسيولوجية – أنثربولوجية لمشهد عرفته مدينة طرابلس طوال ما يقارب قرناً من الزمن، في منحى يتخذ تصاعداً فكرياً، تتشعّب منه محطّات التاريخ السياسي، والاجتماعي، والتحوّلات المستمرة للمدينة الشمالية، وتأثّرها بمحيطها. سرد يتجاور مع 750 صورة، جمعها زكاك في كتاب هو أشبه بفيلم روائي، ذي طابع مشوق ونوستالجي. يوثّق ذاكرة طرابلس، التي شهدت انفتاحاً على العالم وتلاشت انطوائيّتها في خمسينيات القرن الماضي، وازداد صعود المشهد الثقافي فيها، لغاية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وما بعدها.
«راديو» تقدّم الفيلم المكسيكي الإسباني «كاميليا» (1953)



قراءة الكتاب تشبه النظر في صندوق الفرجة... في قديم الزمان، على سواحل الشرق المتوسط، خبّأت إحدى المدن التي تدعى طرابلس، تاريخاً عريقاً وتجربة حيّة للفنون. شيّدت «إمبراطورية سينمائية»، وعرفت عصراً ذهبياً بين الخمسينيات ومطلع السبعينيات. حكّامها هم بضع عائلات طرابلسية، جعلوا صالات السينما جزءاً هاماً من اقتصاد المدينة. أما جمهورها، فهو من أحياء التل، والميناء، ومخيمات الشتات... ونجوم شاشتها، من صحراء الشرق، وهوليوود، وأوروبا، والشرق الأقصى، وغيرها. على الأرجح، أنّ معالم هذه الإمبراطورية بدأت مع الحكواتي في مقاهي طرابلس العتيقة. أيضاً، مع كراكوز وعيواظ مسرح خيال الظل. كان الأطفال ـــ وفق ما ينقل الكتاب ـــ يترقّبون أبو حشيشة و«صندوق الفرجة» خاصّته، حيث كان يقف صباح كل أحد، في مدخل البناية، ويبدأ بالغناء «تعا تفرّج يا سلام... على الزير سالم يا سلام».
تحطّ السينما رحالها في الفيحاء، حيث تُشيد أول صالة عام 1910. اقتصرت الشرائط حينها على مشاهد الحيوانات والمناظر الطبيعية. يمرّ الوقت، وتصبح السينما جزءاً من روتين المقاهي الشعبية، سمّاها الطرابلسيون في ذلك الوقت «سيلما»، بلهجتهم المحكية، واقتصر الحضور على الرجال فقط.
يعود هادي زكاك إلى ثلاثينيات القرن الماضي، عندما راحت طرابلس تتحضر لافتتاح صالات العرض السينمائية. بدأ العمل على أدق التفاصيل: الستائر، الزخرفة، ونوعية الكراسي. كلها خلقت جواً لكي يسافر المشاهد في رحاب الفن السابع. ازدادت العروض في الخمسينيات، وباتت الشرائط العربية والأجنبية، تحتل أولوية مطلقة للجمهور. برز استعمال التسميات الفرنسية للصالات، «أمبير» مثلاً، بالتوازي مع الأسماء العربية للصالات: «الشرق»، و«دنيا»، و«الكواكب»... لم تكن موضة البوشار رائجةً بعد. كان هناك «البليلة»، و«البيبسي كولا»، و«المخلوطة»، والفستق الحلبي، والترمس. وصل الأمر إلى إدخال سندويش الفلافل إلى السينما، حيث كانت تنتشر رائحته أيام الأعياد، بعدما أتى اللاجئون الفلسطينيون بـ «أم الفلافل»، مع وصولهم إلى المدينة على إثر نكسة 1948.
بين العرضَين الأول، والأخير، سيل من الحكايات. يضيء زكاك على فيلم «الوردة البيضاء» (1933)، الذي شكل خرقاً على مستوى الإنتاجات المصرية. محمد عبد الوهاب سيكرس اللبنة الأساسية للسينما المصرية. كان «مقهى التل العليا»، وهو وقف لعائلة المجذوب بنته الدولة العثمانية، شاهداً حيّاً على تغيّرات المدينة. بدأ المقهى بعرض الأفلام في الهواء الطّلق. واكب التل الأفلام الصامتة والناطقة، وتابع الطرابلسيّون نجوماً أمثال إسماعيل ياسين، وليلى مراد، وفريد الأطرش. هناك طقوس فرضتها «سيلما» التل. تجلس على كراسٍ من القش في المقهى، وتطلب الشيشة، معها «مصقع» أو «كازوزة»، وتشاهد فيلماً. يعرض «هذا ما جناه أبي»، للنجمين زكي رستم وصباح، وبعد أن ينتهي العرض، تبدأ جلسة نقاش حول بعض الأفكار الاجتماعية والاقتصادية.

«عائد إلى حيفا» (1981) من إنتاج «مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي/ فلسطين» (مجموعة عبودي أبو جودة)


سينما «رومانس»

يدخل سكان المدينة في مرحلة ثقافية جديدة، بعدما شهد حسن الإنجا في رحلاته على تصاميم المسارح الأوروبية. يأتي بعدها ليشيّد مسرحاً بتصاميم إيطالية. حمل المسرح يومها اسم «زهرة الفيحاء»، الذي توافدت عليه الفرق المسرحية من مختلف الدول. حتى إن «الآنسة أم كلثوم» غنّت على خشبته، في أيلول (سبتمبر) من عام 1931. بعد سنوات قليلة، تم تجهيز مسرح الفيحاء بشاشة بيضاء، وآلة عرض للأفلام. وقد عرض فيها «دموع الحب» (1935)، هذا الفيلم الذي تضمن بعض المشاهد التي صوّرت في لبنان، جاعلاً من بلاد الأرز ديكوراً تكرّر استعماله في الأفلام المصرية.
شهدت طرابلس ولادة سينما أخرى هي «أمبير»، أقدم صالة في لبنان، وفق ما يؤكّد زكاك في «العرض الأخير». في ثلاثينيات القرن الماضي، يقترح نقولا قطان على أنطوان حبيب شاهين، تشييد «سينما وبلكون» في الطابق السفلي، على أن تقطن العائلة في الطابق العلوي. يقتنع شاهين بالطابع التجاري للمشروع، ويشيّد السينما. أصبحت لطرابلس صالة سينمائية يأتي الرواد إليها. ينتهون من مشوارهم في سينما «أمبير»، ويمرّون بالقرب من كباريه «كانجارور»، حيث الجنود الأستراليون يشربون البيرة، بعد تمركزهم هناك عام 1941. عرضت «أمبير» أفلاماً متنوعة مثل «صراع في الوادي» (1954). ومن أبرز عروضها، الفيلم اللبناني «عذاب الضمير» (1953). وفي نهاية الخمسينيات، أسرت مارلين مونرو قلوب الطرابلسيّين في فيلم Some Like it Hot (1959)، الذي يتعدّى دور المتعة فحسب، ويرسّخ في عقل المشاهدين النهايات المعبّرة على غرار «لا أحد كامل»، التي جاءت كدعوة طليعية لتقبّل كافة الهويات الجنسية، بما فيها المثليّة.

سينما «هوليوود» في الميناء


مسرح الإنجا ــ سينما البروكه في وسط الصورة ـ ساحة التلّ في الخمسينيات

في ذاكرة السينما أمسيات حاشدة وأفلام من كل حدب وصوب، منها الموجة الإيطالية في فيلم «كان يا مكان في الغرب» (1968)، ثم موجة الأفلام الهندية كـ «أمنا الهند» (1957)، وصولاً إلى موجة الأفلام الإيروتيكية، أي الأفلام الحارة التي تطفئ قلوب الشباب، تحديداً مع فيلم ناهد يسري «سيدة الأقمار السوداء» (1971) الذي عُرض رغم قطع الرقابة كثيراً من مشاهده. كذلك، ضربت مكلة جمال الكون جورجينا رزق موعداً مع الجمهور في سينما «أمبير» في فيلمها «غيتار الحب» (1973) حيث الرقص بالبيكيني. هناك، تعلّق المشاهدون أيضاً بسعاد حسني وتحية كاريوكا في فيلم «خلي بالك من زوزو» (1972). ظل زخم العروض يتصاعد وصولاً إلى فترة اندلاع الحرب الأهلية، عندما شهدت «أمبير» بدورها على الصراع والقتال، المرافق لرقص الأجساد العارية وحركتها... لم تتوقف السينما عن العرض، بل استمرّت في تسجيل الذاكرة، كما يقول زكاك.
يتوقّف «العرض الأخير»، عند كل الدور السينمائية التي عرفتها طرابلس. يقول زكاك بأنّ سينما «الروكسي» مثلاً ارتبطت بشكل وثيق بتاريخ السينما وآلهتها، وتأثّر السكان فيها. بعد نجاح فيلم «ذهب مع الريح» (1939)، بدأ شباب المدينة بتقليد شاربي الممثّل الوسيم كلارك غايبل. المشهد كان لافتاً في سينما «الحمراء»، إذ توافد الناس إليها بالبوسطات لمشاهدة «شمشون ودليلة» (1959)، وبطلته الممثلة الأميركية هايدي لامار. لكن دور سينما «الحمراء» الريادي تراجع مع ظهور سينما «كولورادو».

مقهى التل العالي أو التل العليا

شهدت صالات السينما في طرابلس ازدحاماً وتكاثرت فيها العروض. في «ريكس»، صدح صوت ليلى مراد في فيلم «قلبي دليلي» (1947). أما سينما «أوبرا» فكانت في أوج نجاحها عندما اخترع الشيطان بريجيت باردو في فيلم «وخلق الله المرأة» (1956) للمخرج الفرنسي روجيه فاديم. «ريفولي»، جوهرة الصالات، كما يُطلق عليها، قدمت «أبو سليم في المدينة» (1961) وهو أوّل فيلم لنجم المسرح الطرابلسي والتلفزيون اللبناني صلاح تيزاني. وبحسب ما يوثّق زكاك، فإن سينما «كولورادو» كانت نجمة الصالات حيث قدّمت أفلام ألفرد هيتشكوك إلى المتفرّجين، وأفلام إسماعيل يس، وقدمت ملك الروك أند رول ألفيس بريسلي، وروائع عمر الشريف، وآل باتشينو. لا يقف الكتاب عن سرد هذه الشرائط فحسب، بل يدخل أيضاً في مدى تأثر المتفرجين الطرابلسيين بدور الأمازونيات، نساء الحب والحرب، في فيلم «معركة الأمازونيات» (1973)، وعما إذا ما كان المتفرّجون سيطالبون بالعدالة الاجتماعية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، راحت عاصمة الشمال تتحضر لافتتاح صالات العرض بأدق تفاصيلها من الستائر، والزخرفة، ونوعية الكراسي


أعادت سينما الميناء «كليوباترا» عرض أفلام الموسم وقتذاك كـ «لحن حبي» (1953) للشحرورة صباح وفريد الأطرش... زاحمتها أيضاً سينما «راديو» عام 1954 عندما تعلم إلياس حداد كيفية تركيب الفيلم على آلة العرض، ووضع الناضور، وتغيير «الكاربون»، حتى إنه بات من أشهر مشغلي آلات العرض السينمائي في الميناء.

سينما «كولورادو»

عن سينما «سلوى»، حيث سكب المتفرّجون الدموع، ينقل زكاك عن الكاتب جان توما مدى تأثر أبناء المدينة بالأفلام الهندية التي عرضت فيها. لا يقتصر السرد على التوثيق هنا، بل يُسائل ارتباط مجتمع الميناء البحري بمواضيع الأفلام الهندية، حيث يبدو للكاتب أن الميناء البحري الهادئ، كان ينقصه الصخب الموسيقي، والإيقاع الراقص. لقد تقاطعت العادات بين المجتمعين، أكان لجهة التركيبة العددية للعائلة الهندية، أو القيم الإنسانية التي يعرفها المجتمع الميناوي الذي اكتشف على صعيد آخر، القرية اللبنانية في الزمن العثماني تحديداً، في فيلم «سفر برلك» (1976)، و «بنت الحارس» (1968)، المطعّم بانعكاسات الحروب والتغيّرات، بعدما شهرت فيروز السّلاح بوجه الفساد في هذا الفيلم... يستمر العرض لأفلام بدوية وغنائية وبوليسية. «بالاس»، و«الأمير»، و«أوديون»، و«شهرزاد»، وغيرها من الصالات التي قدمت زوربا، وهرقل... عرّفت هذه الصالات الجمهور على تشارلي شابلن، وصوفيا لورين، وغيرهما. ارتادت العائلات من كل الطبقات الاجتماعية دور العرض هذه. حينها، كانت النسوة يرتدين أجمل الفساتين، ويتأنّق الرجال لدى ذهابهم إليها.
بعد نجاح عروض فيلم «ذهب مع الريح»، بدأ شباب المدينة بتقليد شاربي الممثل الوسيم كلارك غايبل


ما مدى ارتباط استمرارية «سيلما» بالجنس؟ يقصُّ المخرج السينمائي اللبناني في كتابه فورة أفلام البورنو، ويسأل: «كيف للمدينة التي عُرفت دائماً بطابعها المحافظ، أن تشهد ظاهرة «مخلة بالآداب»»؟ لا تقتصر التغيرات عند هذا الحد، بل تأتي مصحوبة بضياع هوية المدينة ومطالبة عدد من سكانها بالانضمام إلى سوريا، إلى أن تخلّت الحركة الوطنية السورية عن طرابلس حيث دخلت المدينة في الكيان اللبناني. بعد موجات صعود وهبوط، أفل نجم بعض الصالات وصعد دور أخرى. حتى أن «سيلما» أقفلت أبوابها مع اعتقال الرئيس عبد الحميد كرامي في 11 تشرين 1943، لفترة من الوقت. وقد ازدادت الأمور تعقيداً، بعد انقضاء الانتداب، وتزوير الانتخابات النيابية عام 1947. بات بعضهم يعتبر أن «سيلما» هي رمز للفساد، وتعمل على زعزعة طابع المجتمع الطرابلسي المحافظ.
انتشرت جماعة «شباب محمد» وهي أول حركة سلفية في طرابلس، على يد مؤسّسها أو «أميرها» الشيخ سالم الشهال عام 1947. شنّت حينها حملة ضد دور السينما، وتم تكسير الإعلانات الملوّنة و«البذيئة» على إثر هذه الحملة. ما فتئت المدينة تخرج من صراعات جديدة، حتى تدخل في أخرى. وقد أثّرت الأنباء الآتية من فلسطين في ربيع 1948 على أبناء المدينة، خصوصاً حين واكبت «سيلما» النكبة الفلسطينيّة، واستضافت حفلات لمساعدة اللاجئين. أبعد من ذلك، وصل الأمر في الخمسينيّات إلى تشديد الرقابة على المواضيع الدينية المتعلقة باليهود. على سبيل المثال، في فيلم «الوصايا العشرة» (1956) للمخرج سيسيل ب. دي، كان هناك تسويق لإسرائيل، شأنه شأن أفلام أخرى دفعت «مكتب مقاطعة إسرائيل» لاحقاً إلى منع عرض أفلام من هذا القبيل.

أول حركة سلفية في طرابلس شنّت عام 1947 حملة على الصالات بتهمة إفساد المجتمع الطرابلسي


المدينة على صفيح ساخن. كيف تتحضر طرابلس عشية الحرب الأهلية؟ ينقل زكاك في كتابه كيف بحثت «سيلما» عن الإنتاجات الجديدة التي تُحاكي التطورات الداخلية. يستمر «العرض الأخير» بسرد فترة الثمانينيات حين أقفلت بعض الصالات أبوابها، ويمرّ على فيلموغرافيا التسعينيات، وصولاً إلى «سيلما» الجبهات والمحاور. شاخت السينما بعدما أتعبتها الانتكاسات ومحاولات تصدّيها للموت. تعيش السينما اليوم في طرابلس حالة من الموت، فيما يأتي كتاب هادي زكاك، ليجعل الماضي فرصةً للانطلاق والربط بين الأزمنة. ينتهي السرد أخيراً في هذا الكتاب الذي كان بمثابة «العرض الأخير» للقرّاء، خصوصاً تمتعهم بلغة الكتاب المشوّقة، ووجوه النجوم السينمائيّين الحلوة. ومعها، ينتهي عرض حضارة بأكملها. ترافق الحسرة شعوراً داخلياً، وتجعل القارئ ينظر إلى سلسلة التحولات التي شهدتها المدينة، بعدسة السينما، من خلال تحليل ظاهرة أفول صالات السينما، بعدما حلّت اليافطات والشعارات السياسية لصور الزعماء الطرابلسيّين الجدد محلّ ملصقات الأفلام.