لم يكن قائد الانقلاب في السودان، عبد الفتاح البرهان، ليترأّس «مجلس السيادة الانتقالي» لولا الانتفاضة التي قرَّر الانقلاب عليها. باكراً جدّاً، تمكَّن الرجل من الظفر بالسلطة؛ فبعد النجاح في إطاحة نظام الرئيس عمر البشير في نيسان 2019، وبعد يوم واحد فقط من خلافته لهذا الأخير، اضطرّ وزير الدفاع في حينه، أحمد عوض بن عوف، إلى الانسحاب لمصلحة المفتّش العام للقوات المسلحة وقتها، الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي عقد شراكة مع أحزاب «قوى الحرية والتغيير» لإدارة مرحلة انتقالية كان يفترض أن تنتهي إلى إجراء انتخابات.غير أن محاولاته للاستئثار بالحُكم بدأت مُبكراً؛ فبعد فضّ اعتصام القيادة العامة في الثالث من حزيران 2019، أعلن «القائد» الجديد، في اليوم التالي، فضّ الشراكة مع القوى المدنيّة، ملغياً الاتفاق السياسي المُبرم معها، وفاتحاً الطريق أمام الجيش لتولّي زمام السلطة، وسط وعود بالذهاب إلى انتخابات مبكرة بعد 9 أشهر. لكن تدخل «الاتحاد الأفريقي» وإثيوبيا ورفْض الغرب لتوجّهات البرهان، أجبره على الإذعان والعودة مجدداً إلى شراكةٍ ظلَّت على الدوام محفوفة بالمخاطر.

ثقة ليست في محلّها
كان الظهور الأوّل للبرهان في اعتصام القيادة العامة ضدّ نظام البشير، مع الرئيس السابق لـ«حزب المؤتمر» السوداني، وزير الصناعة المعزول إبراهيم الشيخ. وعلى الرغم من أن الأحزاب المدنية هي التي جاءت بالبرهان وسوّقته بين الجماهير على أنه «مؤمن بالتحوُّل الديموقراطي»، وسيتعاون مع الجميع للوصول إلى إجراء انتخابات حرّة، بيدَ أن الرجل عاد مجدداً، في 25 الماضي، لينقلب على جميع التفاهمات، ويبدأ معركة ضارية مع الشارع.

قفزة في المجهول
في هذا السياق، يعتبر المحلّل السياسي في صحيفة «الحداثة» السودانية، محمد عبد الباقي، انقلاب البرهان «قفزة في هوة سحيقة»، خصوصاً وأن الرجل أدخل البلاد في نفق صعب. وحول إمكانية عودة البرهان عن قراراته، يرى عبد الباقي، في حديث إلى «الأخبار»، أن ذلك «سيكون أمراً بالغ الصعوبة ومكلفاً، تماماً كما أن المضي قدماً في تنفيذ (الانقلاب)»، بعدما وضع البرهان نفسه في منطقة أصبح فيها «كالمُنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى». في هذا الوقت، يبدو أن سقف الشارع، بعد التظاهرات الحاشدة، أوّل من أمس، أصبح أعلى، إذ بات البعض يطالب بـ«إطاحة البرهان نفسه والجيش من الفضاء السياسي». توجُّه تعزّزه معطيات تبيّن أن النظام السابق عائد للسيطرة على البلاد من خلال أدواته القديمة. وفي هذا الإطار، يلفت عبد الباقي إلى أن الناظر إلى مؤيّدي البرهان يمكنه ملاحظة ذلك؛ ومن هؤلاء: الزعيم القبلي محمد الأمين ترك الذي أغلق الموانئ والطرق في شرق السودان وخنق الاقتصاد، والمعروف بانتمائه إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وكان مرشّح حزبهم، «المؤتمر الوطني»، في عهد البشير؛ وجبريل إبراهيم، قائد ورئيس حركة «العدل والمساواة»، وآخر وزير مالية قبل الانقلاب الأخير، وجميع أعضاء حركته ينتمون إلى «الإخوان»، بالإضافة إلى الطاقم الإعلامي الذي كان يعمل مع البشير، وعلى رأسه أبي عز الدين، وغيرهم.
مآلات ما سيحدث بعد انقلاب البرهان كثيرة، وربّما تؤدي إلى تغيير خريطة السودان نفسه


سيناريوهات خطيرة
«مآلات ما سيحدث بعد انقلاب البرهان كثيرة، وربّما تؤدي إلى تغيير خريطة السودان نفسه، وليس فقط تغيير واقعه السياسي»، تقول الباحثة السياسية ريتا مدني، لـ«الأخبار». وتلفت إلى أن معظم مؤيّدي الانقلاب هم من أنصار حركتَي «العدل والمساواة» و«تحرير السودان» بقيادة حاكم دارفور مني أركو مناوي، وهي حركات ذات طابع قبلي وجهوي نشأت من أجل مناهضة نظام عمر البشير. وقد سُمح لهذه الحركات، ذات العقيدة القتالية الجهوية، بالاحتفاظ بقواتها داخل العاصمة الخرطوم، إلى جانب قوات «الدعم السريع» (ميليشيات «الجنجويد» سابقاً)، وهي أيضاً ميليشيات قبلية أسّسها نظام البشير لمقارعة الحركات المشار إليها سابقاً في حرب دارفور، إضافة إلى وجود قوى أخرى متناقضة داخل العاصمة، منها «الحركة الشعبية لتحرير السودان» (جناح مالك عقار)، وقوات «الطريق الثالث» (تمازج)، فيما لم توقّع أكبر حركتَين مسلحتَين، «الحركة الشعبية لتحرير السودان» (جناح عبد العزيز الحلو) في منطقة جنوب كُردُفانْ وجبال النوبة، و«حركة جيش تحرير السودان» بقيادة عبد الواحد محمد نور في إقليم دافور، على «اتفاق جوبا»، وأصدرتا بيانات لرفض انقلاب البرهان، ودعتا أعضاءهما للمشاركة في المواكب المناهضة له، يوم السبت.

الجنرال في متاهته
وعمّا يمكن توقّعه في الأيام المقبلة، تقول مدني إن «الأمر معقّد»، إذ تعتقد أن «البرهان سيقبل بتسوية ما، وكذلك قوى الحرية والتغيير». تسويةٌ ستكون، برأيها، قائمة على «عودة الأمور إلى ما قبل الانقلاب مع حفظ ماء وجه البرهان، بإحداث بعض التغييرات في الحكومة وتوسيع دائرة المشاركة شكلياً». وإن كان هذا الرأي لا يتساوق مع إعلان البرهان، أمس، عن قرب تشكيل حكومة على مقاس تطلّعاته، تشير مدني إلى أن السيناريو الأسوأ هو «رفض أيّ طرف من أطراف المعادلة، العودة إلى الوضع القائم ما قبل الانقلاب، بخاصّة إذا كان هذا الطرف هو الجيش. ويعني ذلك، بحسبها، اختمال «الذهاب إلى حرب أهلية». وحتى داعمي البرهان أنفسهم، تضيف، «بينهم من التناقضات والدماء والثأر ما يكفي لبيع الموت في حواري وأزقة جميع المدن السودانية». وتبيّن مدني أن جميع الفرقاء يدركون ذلك، متوقّعة أن «يعودوا من حافة الهاوية إلى طاولة حوار بنّاء».



الدول العربية ستندم
يرى المحلِّل السياسي، محمد عبد الباقي، أن موقف الدول العربية لا يعوَّل عليه كثيراً. ويلفت إلى أن الدول التي تدعم البرهان، ستنقلب عليه لاحقاً، «عندما يتّضح لها أن معظم المحيطين به هم من فلول جماعة الإخوان المسلمين»، مشدّداً، في هذا الإطار، على أن هذه الدول «ستندم كما حدث لها مع نظام عمر البشير، عندما خدعها بزجّه مدبّر الانقلاب نفسه ورئيسه في التنظيم، حسن الترابي، في سجن كوبر معتَقلاً مع بقية السياسيين».