جنين | «الملطشة»، تلك هي التسمية التي يحبّذ الفلسطينيون إطلاقها على حاجز الجلمة شمال جنين، بعد تعرّضه لسلسلة هجمات مسلّحة خاطفة بشكل يومي على مدار الأسبوع الماضي. هكذا، انفجر مخيم جنين وفاع «عشّ الدبابير»، عقب أحداث ومحطّات مفصلية أشعلت فتيل القنبلة، وأعادت إلى الذاكرة معركة نيسان 2002. الصحافيون الإسرائيليون لا يفتأون يلوّحون بعملية عسكرية تستهدف المخيم، فيما هدّد رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، أخيراً، باحتمالية اللجوء إلى شنّ عملية واسعة النطاق إذا ثبُت وصول الأسيرين المتحرّرَين من سجن جلبوع، أيهم كممجي ومناضل نفيعات، إلى المخيم. على الجانب الآخر، استعدادات تجري على قدم وساق، حيث يتجهّز عشرات المقاومين للمواجهة، مسلّحين ببنادقهم وبعبوات ناسفة وقنابل محلية الصنع.منذ آذار الماضي، بدا أن ثمّة جمراً يتململ تحت الرماد في جنين، ثمّ سرعان ما انطلقت الشرارة الأولى إبّان مطاردة الشهيد جميل العموري ورفيقه الأسير وسام أبو زيد، وكلاهما من «سرايا القدس» (الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي)، بعدما نفّذا مجموعة من عمليات إطلاق النار باتجاه حاجز الجلمة، وخاضا اشتباكات مسلّحة مع جيش العدو خلال اقتحامه جنين ليلاً. كذلك، شكّلت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة دافعاً رئيساً لارتفاع وتيرة التصعيد في جنين، حيث تصاعدت العمليات ضدّ الاحتلال وحواجزه بعد ظهور العموري ملثّماً برفقة عدد آخر من مقاومي «سرايا القدس»، في رسالة مصوّرة لتهديد الكيان العبري. لاحقاً، ارتقى العموري شهيداً، وأكمل رفاقه الدرب، والآن يمكث عدد منهم معتقلين لدى السلطة الفلسطينية وآخرون ارتقوا شهداء، من مثل: ضياء الصباريني، نور الدين جرار، صالح عمار، أمجد العزمي، ورائد أبو سيف، وهؤلاء قضوا نحبهم خلال اشتباك مسلّح، بعد أن وقع مقاومون في كمين لقوّة خاصة مستعربة مكثت في بناية في مدينة جنين، أعقبته مواجهات عنيفة.
يغلي مخيم جنين منذ استشهاد الكوكبة الأخيرة، وينتظر المقاتلون فيه أيّ اقتحام إسرائيلي لإنجاز ما هو أشبه بـ«معركة الثأر»، إلا أن هذا لم يحدث إلى الآن، إذ يبدو واضحاً أن جيش العدو يتجنّب اقتحام جنين ومخيمها إلّا بعملية خاطفة وسريعة، بقوات بزيّ مدني، وبمركبات غير عسكرية أيضاً. لكن عملية «نفق الحرية»، ونجاح الأسرى الستّة في تحطيم «خزنة جلبوع»، أعاد رفع منسوب التحدّي مجدّداً، فيما أوصل القمع الإسرائيلي الوحشي للأسرى، المشهد إلى الذروة. وضمن استعدادات الفلسطينيين للمواجهة المرتقبة، شكّل المقاومون «غرفة العمليات المشتركة» (المؤلّفة من مقاومين ينتمون إلى فصائل مختلفة، كالجهاد الإسلامي، وحماس، وفتح)، كتجربة مماثلة للأجنحة العسكرية في قطاع غزة. وبالمناسبة، هي ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها ذلك في جنين، إذ عاش المخيم هذه التجربة في معركة نيسان 2002. وفي تصريح إلى وسائل الإعلام، يقول مقاوم من «كتائب شهداء الأقصى» خلال عرض عسكري: «لا مجال للحديث مع إسرائيل إلا بالرصاص، ونحن مستعدون للقتال ولن نتراجع»، فيما يؤكد مقاوم من «سرايا القدس» أن «عشرات المسلّحين جاهزون لصدّ أيّ اعتداء إسرائيلي»، واصفاً مخيم جنين بأنه «غزة الثانية».
ينتظر المقاتلون في مخيّم جنين أيّ اقتحام إسرائيلي لإنجاز ما هو أشبه بـ«معركة الثأر»


مع تصاعد القمع الإسرائيلي بحق الأسرى داخل السجون بعد عملية «نفق الحرية» واعتقال العدو أربعة من الأسرى المتحرّرين، شاركت جنين ومخيمها في الهبّة الشعبية المساندة للأسرى. ومنذ أسبوع، يتعرّض حاجز الجلمة يومياً لعمليات إطلاق نار خاطفة، إضافة إلى إلقاء قنابل محلية الصنع (أكواع)، علماً أن الحاجز يقع شمال جنين ويمثّل نقطة الاشتباك والتماس الأقرب مع جيش العدو، نظراً إلى بعد مستوطنة «دوتان» ومعسكرها نسبياً عن المدينة ومخيمها. وخلال عرض عسكري نصرةً للأسرى، وردّاً على التهديدات الإسرائيلية بعملية عسكرية، قالت «غرفة العمليات المشتركة» في جنين، في بيان: «سنفتح على الاحتلال أبواب جهنم إذا استمرّت الاعتداءات على الأسرى، ونعلن النفير العام من أجل الدفاع عن أسرانا». ويجزم مصدر من داخل الغرفة، لـ«الأخبار»، أن «المعركة مع جيش العدو قادمة لا محالة ولا مفرّ منها، ويتجهّز المقاومون من عدّة نواحٍ، فهناك أشبال الأكواع، تماماً مثل معركة نيسان 2002، وجرى استحداث ما يعرف بوحدة الرصد، وهي تختصّ بمراقبة تحرّكات جيش العدو وأوضاع الحواجز والمعسكرات المحيطة بمحافظة جنين، كما أنها تتابع أيّ مركبات مدنية مشتبه بأنها تقلّ جنوداً إسرائيليين ووحدات خاصة ومستعربين، إضافة إلى وجود وحدة الإرباك الليلي التي تتركّز مهمّتها على إشعال الإطارات المطاطية وخوض المواجهات بالحجارة والزجاجات الحارقة على حاجز الجلمة، وعند اقتحام آليات جيش العدو للمدينة أو مخيمها».
تبدأ المواجهات على حاجز الجلمة بإشعال الإطارات المطاطية، فيما لا يتمّ استعمال الحجارة أو «المولوتوف» بالنظر إلى أن المنطقة مكشوفة أو «ساقطة أمنياً» بالعُرف العسكري، ثمّ يشنّ المقاومون عمليات إطلاق نار بشكل خاطف، إذ يَحضرون على دراجة نارية أو «الفسبة» كما تُسمّى، ويفتحون النار على الحاجز، ثمّ يغادرون فوراً بشكل يومي. وخلال الأيام الخمسة الأخيرة، وثقّت مقاطع فيديو مصوّرة بعضاً ممّا يجري على حاجز الجلمة، ويُظهر أحدها إلقاء مقاوم قنبلة يدوية الصنع نحو حافلة إسرائيلية تقلّ جنوداً قرب الحاجز، وآخر يبيّن انفجار قنبلة أخرى أثناء تحليق طائرة مسيّرة إسرائيلية في أجواء المكان. وقبل أسبوع، وصف المحلل العسكري الإسرائيلي، أمير بوحبوط، ما يجري في جنين بالقول: «حاجز الجلمة تحوّل إلى بؤرة رعب كما يروي الجنود، والقيادة الوسطى في الجيش الإسرائيلي حذرة من الاقتراب من مخيم جنين هذه الفترة». والجدير ذكره، هنا، أن الأسرى الستّة الذين انتزعوا حرّيتهم عبر النفق، جميعهم من محافظة جنين، وهذا يمثّل عاملاً إضافياً يرفع منسوب احتمالية المواجهة التي باتت قاب قوسين أو أدنى، خاصة بعد ظهور تقديرات إسرائيلية تشير إلى أن واحداً على الأقلّ من الأسيرين المتبقّيَين نجح في اجتياز الجدار الفاصل والوصول إلى المدينة.
على أن مشهد المواجهة لم يَعُد مختزلاً بجنين ومخيّمها، فالأيام الماضية شهدت سلسلة عمليات طعن أو محاولات طعن في القدس ويافا وقرب بيت لحم، كما أن مناطق أخرى خارج المدينة ومخيمها شهدت عمليات إطلاق نار استهدفت مواقع عسكرية لجيش العدو. وفي نابلس، تَكرّر إطلاق النار نحو موقع إسرائيلي على جبل جرزيم، وسبق ذلك إطلاق نار في مخيم بلاطة، كما سُجّلت عمليات إطلاق نار متكرّرة استهدفت قوات راجلة من الاحتلال و«قصّاصي الأثر» على امتداد الجدار الفاصل قرب قرى العرقة والطرم ويعبد، أثناء عمليات البحث الإسرائيلية عن الأسيرَين مناضل نفيعات وأيهم كممجي. أيضاً، يلاحَظ تصاعد نشاط مقاومي «سرايا القدس» في شمال الضفة الغربية، حيث لم يقتصر ظهورهم على جنين فقط، بل امتدّ ليصل إلى مخيم بلاطة في نابلس. ويرى مراقبون أن المواجهة مع جنين ومخيمها قادمة حتماً، لكن سيناريوات انتهائها غير معروفة، وترتبط بمدى تصاعد الوضع الميداني واحتمال ارتقاء شهداء أو وقوع إصابات في صفوف جنود جيش العدو، مع الإشارة إلى أن الناطق باسم «كتائب القسام»، أبو عبيدة، أكد وقوف المقاومة إلى جانب جنين ومخيمها، وعدم التخلّي عن الفلسطينيين هناك. ويكشف مصدر من داخل مخيم جنين، لـ«الأخبار»، عن وصول مقاومين من خارج المخيم للدفاع عنه، في مشهد يشبه ما جرى في معركة جنين الشهيرة إبان انتفاضة الأقصى عام 2002، مؤكداً أن «المعنويات داخل المخيم عالية، ولن ينجح الاحتلال في إنهاء ظاهرة المقاومين الأخيرة بسهولة، ونحن نتحضّر لمعركة تشبه معركة نيسان».