فيما كان الرئيس السوري بشار الأسد، يعقد محادثاته مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، كانت الخطوط الجوّية بين واشنطن وإسطنبول وجنيف، فضلاً عن دمشق وموسكو، تشهد زحمة رحلات لمسؤولين كبار ومبعوثين أمميين على تماس مباشر مع الملفّ السوري، الذي يشهد حراكاً متواصلاً منذ بداية الانسحاب الأميركي من أفغانستان أواخر آب الفائت، تقع موسكو في القلب منه. وبينما يبدو أن خروج الجيش الأميركي من كابول أنعش روسيا، التي باتت تتحضّر للدخول إلى معقل «طالبان» سياسياً واقتصادياً، تُواصل واشنطن التي انسحبت من أفغانستان بشكل فاجأ حلفاءها المحليّين والدوليّين، عقْد جلسات مباحثات مطوّلة مع الروس في جنيف وغيرها، في تواصل مستمرّ بين الطرفين، قد «لا نعلن عنه في كثير من الأحيان لأن الموضوع شائك ومعقد»، بحسب نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف. ولطالما حافظ الأميركيون والروس على قناة دبلوماسية في ما يتعلّق بسوريا، التي يعترف الأميركيون بدور «محدود ولكن مؤثر» لروسيا فيها، لكن التغييرات الآخذة في التبلور اليوم، تفرض على الأميركيين آلية جديدة في التعامل، تأخذ في الاعتبار التحدّيات الكبيرة التي يفرضها الوجود الإيراني «المتشعّب وغير المنضبط» على الأرض، ما يحتّم عليها المزيد من التنسيق والعمل الجماعي مع موسكو ثمّ أنقرة. وفي هذا الإطار، يمكن لإدلب من جديد أن تشكّل مختبراً لذلك التعاون الثلاثي الأميركي - الروسي - التركي.
روسيا وكرة النار
في كلّ البيانات والخطابات الرسمية، وحتى الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الأميركية التابعة لإدارات رسمية، تَبرز «إيران ومليشياتها»، خصوصاً التي تعمل في الجغرافيا القريبة من المناطق الواقعة على طول وادي نهر الفرات ومن المناطق القريبة من فلسطين المحتلة، كتهديد - عائق أمام استكمال الرؤية الأميركية في سوريا. هنا، يتحدّث الأميركيون عن ضرورة استغلال «الفجوة» بين روسيا وإيران، بالتوازي مع إغراء/ الضغط على الأولى للمساعدة في إخراج القوات الإيرانية والفصائل الحليفة لها من تلك المناطق، قبل صوغ القرار النهائي لانسحاب القوات الأميركية. «يمكن للولايات المتحدة أن تعرض التنازل لموسكو عن مناطق ليست مهمّة بالنسبة لها، ولكن تعتبرها روسيا حاسمة لأهدافها المتمثلّة في إعادة سيطرة الحكومة السورية على كلّ البلاد، مثل القاعدة الأميركية في التنف». هذا ما اقترحه بحث مشترك لإليزابيث دينت وآريان طباطبائي في «فورين أفيرز» في 14 كانون الأول 2020، وهو يشكّل مسار تفكير جديد تعكسه المقالات والأبحاث الأميركية التي تهتمّ بالشأن السوري انطلاقاً من العلاقة الأميركية - الروسية. على خطّ موازِ، وفي الاتجاه نفسه، تحاول واشنطن ضمان إنشاء آلية تعاون بين موسكو و«قوات سوريا الديمقراطية» عبر تشجيع الأخيرة على التواصل الدائم مع القوات الروسية. إذ إن «قسد»، من وجهة نظر الولايات المتحدة، تعارض الوجود الإيراني في سوريا، وتعمل على مواجهته، وتشهد على ذلك المناوشات التي تندلع من وقت إلى آخر بينها وبين الفصائل المدعومة من طهران على طول نهر الفرات ومدينتَي دير الزور والقامشلي. وروسيا كوسيط، برأي واشنطن، يمكنها من جهة أن تضمن تكريس «قسد» أمراً واقعاً في منطقة الشمال الشرقي، ما يمكّن «الإدارة الذاتية» من الاستمرار حتى بعد رحيل القوات الأميركية. ومن جهة أخرى، يمكن لاتفاق روسي - أميركي من هذا النوع، دفْع أنقرة إلى التفاوض مع الأكراد، إمّا من خلال محادثات غير مباشرة أو كجزء من جهد أوسع لتسوية الصراع مع حزب «العمّال الكردستاني».
الحديث عن الخروج الأميركي من سوريا لا يُستَتبع بالحديث عن رفع العقوبات الاقتصادية والحصار بموجب قانون «قيصر»


في خلفية ذلك، يظهر أن ثمّة مسعًى أميركياً إلى «توريط» الروس، وهو ما تُظهره، مثلاً، دراسة أجراها مدير الأبحاث في «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، ​آرون ستين، في تشرين الثاني 2020، حيث يقول إن «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة تشير إلى أن واشنطن تفترض أن المنافسة طويلة الأمد مع روسيا والصين ستعزّز التخطيط الدفاعي. والحرب الأهلية السورية ليست المكان الذي تستعد فيه الولايات المتحدة للفوز بالمنافسة (...) تتمتّع استراتيجية مكافحة الإرهاب المحدّدة بدقة بميزة قلْب منحنى التكلفة مع روسيا، وتحويل المزيد من المسؤوليات عن الأمن الداخلي إلى موسكو. من غير المحتمل أن يكون الروس قادرين على أداء هذا الدور مثل الولايات المتحدة، لكن الهدف من هذه الاستراتيجية (...) هو أن تحافظ موسكو على تكاليفها في سوريا، بينما تدفع الولايات المتحدة تكاليفها الخاصة إلى أقلّ من تكلفة الروس (...) وتحرير المزيد من الموارد لتدريب وتجهيز الجيش الأميركي لحرب القوى العظمى. في غضون ذلك، ستكون روسيا مثقلة بحرب مزعجة قد لا تتمكن أبداً من الفوز بها بشكل مباشر، ولكن سيكون مطلوباً منها أن تظلّ منخرطة فيها في المستقبل المنظور (...) ببساطة: للولايات المتحدة مصلحة في الإنفاق الدفاعي الروسي على حرب أهلية ذات مصلحة هامشية لواشنطن لأنها تحرم موسكو من بعض الموارد التي يمكن أن تنفقها بطرق تشكل تهديداً أكبر لمصالح الولايات المتحدة». يدعم هذا الكلام حقيقة أن الحديث عن الخروج الأميركي من سوريا، لا يُستَتبع بالحديث عن رفع العقوبات الاقتصادية والحصار بموجب قانون «قيصر». وبالتالي، إنْ قرّر الأميركيون مغادرة هذا البلد، فإنهم سيفعلون ذلك فيما سيسلّمون البلاد المُنهكة بفعل الحرب والعقوبات، إلى روسيا التي لا تتضمّن أجندتها في سوريا أيّ استثمارات اقتصادية أو مشاريع استراتيجية. فهل ستقع موسكو في شرك الألغام الأميركي، وتتلقّف كرة النار السورية من دون أيّ فعالية موازية، إلى جانب ألغام متعدّدة في الشرق والبادية وإدلب؟

خيارات موسكو البديلة
تعلم روسيا أن أميركا يمكنها التأثير على وجودها في سوريا بأساليب عدّة، منها تحريك تركيا والأكراد والخليج وحتى إسرائيل، التي أعرب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أمام نظيره الإسرائيلي، يائير لابيد، عندما التقيا في موسكو أخيراً، عن تمسّك بلاده بـ«ضمان أمنها»، محذراً من تحويل أراضي سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات «بين دول أخرى». اللافت في تصريح لافروف، غضّه الطرف عن حقيقة عشرات الغارات الإسرائيلية على أهداف في سوريا، واللافت أيضاً تحذيره «دولاً أخرى» من تصفية حساباتها مع إسرائيل عبر الأراضي السورية، فمَن هي هذه الدول الأخرى؟ أيّاً يكن، فإن «الأهداف» التي تتعرّض للغارات الإسرائيلية هي بيت القصيد هنا: «المصالح الإيرانية» في سوريا، وكيفية تعامل روسيا معها، خصوصاً وأن إنهاء الوجود الإيراني يمثّل مطلباً - مسعًى أميركياً دائماً. قد يكون الملفّ الاقتصادي «مخرجاً لائقاً» يجنّب موسكو حَرَج المواجهة مع «الأصدقاء» الإيرانيين. وفي هذا الإطار، يبدو بارزاً أن موسكو تعمل منذ فترة على تشجيع دول خليجية على رأسها السعودية والإمارات، على الاستثمار في ملفّ إعادة إعمار سوريا. إذ تعتقد موسكو أن تعاظم الدور الخليجي هناك، مع ما يعنيه من اتفاقيات سياسية وأمنية مع دمشق، سيعني في أحد وجوهه انتفاء الحاجة إلى الدور الإيراني المباشر و«الفجّ» على الأرض. وبالإضافة إلى كونه «مخرجاً لائقاً»، فإن الملفّ الاقتصادي وإشراك الخليجيين فيه، يمكنه أن يعين موسكو على إدارة الملفّ السوري، عبر خلق الموارد اللازمة، من جهة، ووضع هوامش لـ«التطلّعات الصينية» إلى دور اقتصادي استثنائي من جهة أخرى، خصوصاً أن التواجد الروسي في طرطوس وبانياس قد يمثّل مطبّاً أمام مبادرة «الطريق والحزام» الصينية.
إزاء كلّ ما تَقدّم، ترتسم في دمشق الكثير من الأسئلة حول المرحلة الحالية التي يتمّ التأسيس فيها لما هو آتٍ. تقول مصادر متابعة لـ«الأخبار»، إن «دمشق شريك طبيعي ومؤكد في تحديد وجه التحوّلات السياسية والميدانية في كلّ المراحل من عمر الأزمة، فضلاً عن المستقبل المرتقب»، ووفقاً لهذا، فإن «سوريا تنظر إلى التطورات من زاوية مصالحها القومية، وبما يحفظ سيادتها على طول الجغرافيا السورية وعرضها، بمعزل عن أيّ اعتبارات أخرى»، بحسب المصادر نفسها، التي تشير إلى أن «الرئيس بشّار الأسد في زيارته الأخيرة إلى موسكو تناول الكثير من الملفات الحسّاسة انطلاقاً من هذه الرؤية». ويلفت مصدر مطّلع على الموقف الروسي في سوريا، من جهته، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن دخول روسيا إلى سوريا «أحدث توازناً استراتيجياً بين الأطراف المتدخّلة واللاعبة على الأرض، إلّا أن موسكو في أساس خطوتها قرّرت أن تكون على تواصل مع الجميع، وأن لا تدخل في مواجهة مع أيّ طرف»، حتى عندما أسقط الأتراك طائرة روسية وتبعهم الإسرائيليون بفعل مماثل، كان الردّ الروسي دبلوماسياً. وبحسب المصدر فإن «روسيا تعمل وفق مبدأ أن يكون الحفاظ على وجودها في الشرق الأوسط غير مكلف»، خصوصاً في سوريا التي تُعتبر «منطقة توافق أميركي - روسي، بمعنى التوافق على التواجد الثنائي المباشر والفاعل»، وبالتالي «ترى روسيا أن من مصلحتها الأكيدة الحفاظ على هذا الوجود في سوريا».