كشف السجال الأخير بين زعيم المعارضة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من جهة، ورئيس الوزراء الحالي نفتالي بينت ومعه وزير الأمن بني غانتس من جهة أخرى، حول ما آل إليه البرنامج النووي الإيراني وآفاقه، حجم الخيبة التي تهيمن على كلا الطرفين إزاء هذه القضية. إذ شكّل التراشق الحادّ بينهم عبر وسائل الإعلام، تعبيراً صريحاً عن فشل خيارات إسرائيل ورهاناتها في مواجهة إيران، خاصة وأن كلّاً منهم كشف عن جوانب من هذا الفشل. ولا يخفى أن أهمّية تلك المواقف لا تكمن في مضمونها فقط، بل أيضاً في كونها صادرة عن رأس الهرم السياسي في الكيان العبري، ومن مواقع المطّلعين على خلفيات المعادلات التي تبلورت في المنطقة في السنوات الأخيرة.وردّاً على اتهامات وَجّهها نتنياهو إلى حكومة بينت، في مقالة كتبها في صحيفة «إسرائيل اليوم»، انتقد فيها ضعف أداء الحكومة إزاء الإدارة الأميركية وفي مواجهة إيران، وجد بينت نفسه مضطرّاً إلى الردّ بما ينطوي على كشف عن حقيقة النتائج التي انتهت إليها هذه المواجهة. إذ أقرّ، في بيان صدر عن مكتبه، بفشل إسرائيل في كبح تقدّم البرنامج النووي الإيراني، معتبراً أن «إهمال نتنياهو، الذي كان رئيساً للحكومة طوال 12 عاماً، هو الذي سمح لإيران بالوصول إلى أكثر نقطة متقدّمة في البرنامج النووي. وبالنتيجة، هذا فشل خطير». وإذ رأى أن رئيس الوزراء السابق «يدرك ذلك، لكنه يحاول تحميل المسؤولية إلى آخرين»، فقد دافع عن نفسه بأن ما ورثه من سلفه هو «الفجوة بين الخطاب والأفعال»، في محاولة منه لتعرية الخطاب الدعائي لسلفه. كذلك، تصدّى وزير الأمن، بني غانتس، لاتّهامات نتنياهو عبر مقالة في الصحيفة نفسها، أكد فيها أن إسرائيل «فشلت في المعركة السياسية» في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، في تعبير يلخّص مجمل نتائج المواجهة التي قادها خلال أكثر من عقد مع إيران. وأعرب عن اعتقاده بأن «أداء نتنياهو في هذا الموضوع شَكّل خطراً على مكانة دولة إسرائيل في نظر الولايات المتحدة»، مُكرّراً القول إن إيران «مشكلة عالمية وإقليمية قبل أيّ شيء، وفقط بعد ذلك هي مشكلة إسرائيلية».
خصوصية السجال المشتعل بين القادة الإسرائيليين أنه يكشف حالة التردّي التي انحدر إليها الكيان


وبالعودة إلى مقالة نتنياهو، فالملاحَظ أنه أشار فيها إلى سلسلة العمليات التي نفّذتها إسرائيل ضدّ البرنامج النووي الإيراني، لكنه لم يستطِع الادّعاء أن هذه العمليات نجحت في إحباط ذلك البرنامج أو كبحه، خاصة أن الواقع كفيل بدحض أيّ محاولة ادّعاء من هذا النوع، بعدما تجاوزت نسبة التخصيب الـ60%، وهو ما استند إليه مكتب بينت في دفاعه. واتّهم نتنياهو، الحكومة الحالية، بأنها تعهّدت بعدم مفاجأة الولايات المتحدة على المستوى العسكري في مواجهة إيران، مع أنه هو نفسه لم يجرؤ على الإقدام على خيارات دراماتيكية كان يهدّد بها قبل التوصّل إلى اتفاق 2015، وبقي سقف تَحرّكه ضمن الإطار الأمني التكتيكي الذي لم يَكُن كفيلاً بإيقاف عجلة التقدّم النووي. وفي أحدث مصداق لما تَقدّم، عمدت إيران، ردّاً على آخر الاعتداءات التي استهدفت إحدى منشآتها الرئيسة في نطنز، إلى رفع مستوى التخصيب إلى 60%، في خطوة تركت تأثيرها على المفاوضات النووية، من دون أيّ رد فعل دولي أو إسرائيلي لردع طهران أو دفعها إلى التراجع. وإذ حاول نتنياهو أن يُقدِّم نفسه على أنه الأقدر على التأثير في الرأي العام الأميركي، مستدلّاً على قدرته المفترضة بخروج الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق، فقد تجاهل أن كلّ الحملات التي شنّها خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما، ومن ضمنها كلمته أمام الكونغرس، لم تنفع في الحؤول دون توقيع «خطّة العمل المشتركة الشاملة». كما أن حملاته الأخيرة لم تنفع في ثني إدارة جو بايدن عن مساعيها للعودة إلى الخطّة، بغضّ النظر عمّا سيؤول إليه مسار فيينا. وأمّا بخصوص ترامب، فقد كان بالأساس مُهيّأً للخروج من الاتفاق، وفق ما وعد به في حملته الانتخابية.
خصوصية السجال الذي اشتعل بين القادة الإسرائيليين عبر وسائل الإعلام، أنه يكشف حالة التردّي التي انحدرت إليها إسرائيل، وفي المقابل حضور التحوّل في معادلات القوة في المنطقة لدى مؤسّسات القرار، وأيضاً المسارات المستقبلية لتلك المعادلات. فما دار من تراشق علني بينهم لم يكن خلافاً حول أسلوب أو موقف تكتيكي، أو تباين في الرؤية إزاء التهديد الذي يشكّله البرنامج النووي الإيراني، وإنما حول ما تُجمع عليه كلّ المؤسسات والجهات الرئيسة في إسرائيل، لناحية أولويته في سلّم التهديدات. والأهمّ في هذا السياق أن طرفَي السجال أقرّا بأن الفشل يتهدّد شرط بقاء الكيان العبري في المنطقة، والذي يستند إلى ما يُسمّى «الجدار الحديدي» الذي من دونه لا يستطيع الكيان ضمان وجوده ولا انتزاع اعتراف الآخرين به. والجانب الأكثر دراماتيكية، هنا، أن نتنياهو رأى أن هذا الجدار تَحوّل إلى «جدار من الجصّ مليء بالثقوب»، لكنه ألقى بالمسؤولية في ذلك على حكومة بينت، كما لو أن الأمر ناتج من حصيلة مواقف اتُّخذت خلال أسابيع، لا من صراع مستمرّ منذ عقود. وعلى الخلفية نفسها، أشار غانتس إلى الدور المصيري الذي يلعبه مفهوم «الجدار الحديدي»، لكنه اعتبر أن ثمّة حاجة إلى «جدار حديدي دولي، وبالتأكيد جدار حديدي إسرائيلي، مقابل إيران»، في إقرار مباشر بأن إسرائيل أضعف من أن تقف لوحدها، وأنها تحتاج إلى حماية دولية لها، لكي يتشكّل «الجدار الحديدي» الذي يهدف إلى محاولة إفهام أعداء تل أبيب بأن لا إمكانية للانتصار عليها. وإذا كان التجاذب الداخلي الإسرائيلي، وعلى ألسنة كبار القادة، قد انتقل إلى الركيزة التي يستند إليها وجود إسرائيل، فذلك مؤشّر واضح إلى إدراكهم حجم التحوّلات في معادلات القوة، وخطورة المستقبل الذي ينتظر إسرائيل.