15 عاماً قضاها فادي حمّود (33 عاماً) خلف مقود سيارة الأجرة ليحقق حلمه بالزواج. ادّخر معظم ما كان يجنيه ليؤمن مستقبلاً كريماً لأسرته الموعودة... إلى أن حلّت الأزمة الاقتصادية. صرف فادي بعض ما ادّخره في موجة الغلاء، فيما تآكلت القيمة الشرائية لما تبقّى، «وما عادوا يكفّوا حق غسالة»! أمام هذا الواقع، بات متيقّناً من أن القطار فاته، وهو لا يزال في «المحطة الأولى»، وأن عليه أن يبدأ «من جديد».بدورها، سعاد تركت خطيبها رغم الوعود الكثيرة بألا تفرّقهما الظروف، وبأن يجتمعا «على الحلوة والمرّة». لكنّ مرارة الأزمة أقوى من أن تُحتمل لتحمّل مسؤولية الزواج وتكوين أسرة. هي أستاذة رياضيات تتقاضى نصف راتبها منذ بداية الأزمة. وهو عاطل من العمل بعدما خسر عمله في أحد الفنادق في بيروت إثر انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020. تقول إن «نصف الراتب الذي أتقاضاه لا يعادل كلفة إيجار شقة صغيرة، فمن أين نؤمّن أساسيات العيش إذا تزوّجنا؟». ضغوطات الأهل «الخائفين على مستقبل ابنتهم» و«انعدام الأفق بتحسن الأوضاع» لدى الطرفين وضعا حدّاً لحب دام سنوات.
في دراسة لـ«الدولية للمعلومات»، استناداً إلى أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية، يتبيّن تراجع معدلات الزواج عام 2020 بنسبة 13.5% مقارنة بعام 2019، و17.9% مقارنة بمتوسط الأعوام الخمسة الأخيرة (2015 - 2019). وهذا «طبيعي جداً»، وفق مسؤولة الدراسات في «مركز أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي» سحر نور الدين. «فالمجتمع اللبناني يعيش صدمة الانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا، لذا يعيد التفكير في اتخاذ قرارات مصيرية كالزواج، كما لا يبدو في الأفق أمل بالتغيير في المدى المنظور، ما يزيد من حالات اليأس وفكّ الارتباطات».
ولعلّ ما يزيد صعوبة الخطوة، هو «ارتباط تكوين الأسرة بالحاجة الاقتصادية الكبيرة وبرفاهية معينة تستلزم تكاليف باهظة»، وفق عضو مختبر الأنثروبولوجيا في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ليلى شمس الدين، مُشيرةً إلى «عوامل أخرى تتداخل مع العامل الاقتصادي»، أهمها «الصورة النمطية للزواج في الإعلام الجماهيري المحلي والوافد: علاقة معقّدة تتطلب تحمّل مسؤولية مرهقة». بالتوازي مع «تخويف الشباب من فشل الزيجات والوقوع في مشاكل الحياة الزوجية وصعوباتها»، لا تنكر شمس الدين وجود أزمة اقتصادية تخلق تحديات أمام الشباب المقبلين على الزواج، لكنّ «العالم الرقمي الذي نعيش فيه يخلق رغبات جديدة ويرفع مستوى طموحاتنا. فارتبط تكوين الأسرة بحاجة اقتصادية كبيرة وبرفاهية معينة تفرض تكاليف باهظة».
تراجع معدلات الزواج عام 2020 بنسبة 17.9% مقارنة بالأعوام الخمسة الأخيرة


«لم تكن أحوال اللبنانيين المعيشية في فترة الستينيات أفضل ممّا عليه اليوم. مع ذلك كان الزواج متاحاً، لأن متطلبات الحياة كانت أقل تعقيداً، والبنية الاجتماعية والقيم السائدة آنذاك كانت تسمح بسكن الزوجة مع أهل الزوج»، بحسب نور الدين. الانطلاق من هذا «السرد» يُعدّ ضرورياً لطرح النقاش المتعلّق ببروز خيار سكن الأزواج مع الأهل إلى الواجهة ومدى إمكانية تطبيقه في يومنا هذا.
الباحث المتخصّص في علم اجتماع الأسرة زهير حطب يؤكد أنه رغم أن خيار السكن مع الأهل بات «ربما الخيار شبه الوحيد المتاح»، إلا أن التجارب أثبتت حديثاً أن هذا الخيار يفشل «ولا يصمد لأكثر من ثلاثة أشهر. إذ سيرفض الشاب، الزوج أو الزوجة، الذي اعتاد الاستقلالية تدخلات الأهل بخياراته والضغوطات التي سيفرضونها عليه».
«مركز أمان»، من خلال سلسلة دراسات يعدّها، يعمل على تشجيع ما يمكن تسميته بالمساكنة... مع الأهل، وذلك عبر «إحياء هذا النموذج القديم تدريجياً، من خلال منظومة اجتماعية وقيمية تساند هذا الحل من دون الوقوع في مشاكل زوجية ونزاعات بين الحمى والكنّة». إلا أن هذه الجهود، على أهميتها بالنسبة إلى الساعين فيها، تبقى قاصرة عن معالجة التحديات التي تطاول شكل الأسر «المُستقلة» نفسها. فوفق حطب، أكثر من نصف العائلات الجديدة يهاجر أحد طرفيها لتأمين مصدر رزقها، فيما الطرف الثاني يقود العائلة وحده، «ما يخلق تحديات لها مفاعيل مهمة على شكل الأسرة واستمراريتها».
الجدير ذكره أن تراجع معدلات الزواج يتزامن مع تراجع في معدلات الولادة التي سجّلت عام 2020 انخفاضاً بنسبة 14.5% مُقارنة مع عام 2019 وبنسبة 16,2% مقارنة بمتوسط الأعوام الخمسة الأخيرة (2015 - 2019). وبحسب حطب «تراجع معدل الإنجاب من 3.2 للأسرة الواحدة قبل سنتين إلى 2 اليوم، وهو معدل الإحلال الديمغرافي، بمعنى أنه كل طرف ينجب فرداً واحداً يحلّ مكانه بعد وفاته». وهذا يؤدي إلى «تحوّل الهرم السكاني من هرم فتيّ إلى هرم يغصّ بكبار السن، وبالتالي زيادة التعمّر، التي تعطّل التنمية الاقتصادية وتترك أعباء مادية ثقيلة على المجتمع اللبناني»، وفق نور الدين مُشيرةً إلى أن الهجرة النهائية خاصة في صفوف الشباب مع ما يرافقها من تراجع معدلات الزواج تؤدي ديمغرافياً على مدار سنوات إلى «نمو سكاني سلبي» بدأت ملامحه بالظهور.