في لقائهما الأخير، السابع عشر، الخميس الفائت (18 آذار)، ختم رئيس الجمهورية ميشال عون الحديث بالقول: «آمل أن ننتهي في المرة المقبلة». اقترح الرئيس المكلف سعد الحريري الموعد التالي بعد يومين، السبت، إلا أن عون مدّده الى الاثنين. ما لم تكن أمامهما اليوم، في الاجتماع الثامن عشر، المسوّدة المتكاملة، وزراء وحقائب وتوزيعها على المذاهب، بما يفصح عن الكتل والقوى التي اختارت بنفسها مرشحيها، كي يناقشاها ويتّفقا نهائياً عليها، لن تساوي زيارة الحريري قصر بعبدا أكثر من فنجان قهوة.ما يبدو واضحاً في موقف عون ويقوله، قبل دخول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله على خط سجال الرئيسين وبعده، أنه قدّم التنازلات القصوى لإنقاذ تأليف الحكومة، لكن من ضمن التزامه صلاحياته الدستورية: تخلّى عن تمثيل أكبر كتلة نيابية في البرلمان وأكبر كتلة مسيحية فيه هي كتلة التيار الوطني الحر، قَبِلَ بـ 18 وزيراً بعدما كان قد طالب برفع عدد الوزراء الى 20، لا يزال يتمسك بستة وزراء مسيحيين زائداً إليهم وزيراً أرمنياً. ما يقوله الرئيس: «الوضع الحاضر يجبرني على أن أسمّي أنا الوزراء المسيحيين لأن كتلهم الكبرى ــــ خلافاً لسائر الطوائف والكتل ــــ غائبة او مغيّبة عن الحكومة». وهو قال للرئيس المكلف سابقاً: «أنا أسمّي المسيحيين مثلما تسمّي أنت السنّة، والشيعة يسمّون وزراءهم، والدروز كذلك».
هنا يقوم أكثر من خلاف أساسي بين الرجلين:
1 - يتصرّف عون على أن الوزير الأرمني الوحيد في حكومة الـ 18 (والمقصود وزير حزب الطاشناق) مستقل. فالطاشناق سمّى الحريري رئيساً مكلفاً، فيما أحجمت كتلة التيار الوطني الحر عن تسميته. في المقابل، يعدّ الحريري الوزير الأرمني جزءاً لا يتجزأ من الكتلة تلك. الوزير المسيحي السابع، في حساب الرئيس المكلف، هو وزير الثلث + 1، فيما عند عون هو وزير حزب الطاشناق الذي يتخذ مواقفه وقراراته انسجاماً مع خياراته، ولم يكن دائماً في صلب اتجاهات كتلة النائب جبران باسيل، وإن كان حليفاً انتخابياً له. يُغضب عون أن الحريري يريد إعطاءه ستة مقاعد من ضمنها الوزير الأرمني، على أن يحتفظ بحقه هو في توزيع المقاعد المسيحية الثلاثة المتبقية: واحد له، واثنان يختار أحدهما النائب السابق سليمان فرنجية والآخر الحزب السوري القومي الاجتماعي، إضافة الى استئثاره بتسمية الوزراء السنّة الأربعة. ذلك يعني حصول الحريري على الثلث + 1 قبل حاجته الى التعويل على وزيرَي رئيس البرلمان نبيه برّي ووزير النائب السابق وليد جنبلاط.
2 - لدى رئيس الجمهورية ملف من الأوراق والقصاصات تحوي خيارات مختلفة لتوزيع الحقائب، سلّمه إياها الرئيس المكلف، كل منها تلغي سابقتها. في معظم الأوراق هذه، خانات بيض للحصة المفترض أنها لرئيس الجمهورية، بينما الأخرى ملأها الحريري بأسماء وزراء محتملين، من بينها أربعة أسماء شيعية: يوسف خليل وجهاد مرتضى على أنهما اختيار برّي، ومايا كنعان وإبراهيم شحرور على أن حزب الله سمّاهما. كلما سأل عون عن الأخيرين، أجابه الحريري بأن حزب الله طلبهما، وهو متفاهم معه. وعندما يراجع رئيس الجمهورية بعد المقابلة الحزب عن صحة تسميته الاسمين، يأتيه الجواب بالنفي. كذبتان لا واحدة: أولى لا علم لحزب الله بالاسمين، وثانية ليس هو مَن اختارهما ولم يسلّمه أي اسم. في المقابل، يقول الحريري إن برّي زوّده باسمَي مرشحَيه.
3 - يختلف الرئيسان على نحو جوهري على حقيبتَي الداخلية والعدل. كلاهما يريدهما لنفسه، والآخر يرفض. أما مقاربة الحقائب الأخرى فتبدو قليلة الأهمية.
في 16 تشرين الثاني 2020 حضر الحريري الى قصر بعبدا حاملاً الى عون حصة من ثلاث حقائب فقط، هي: الدفاع والداخلية والمهجرين، فرفضها الرئيس واعتبرها ناقصة. في 9 كانون الأول 2020 حمل إليه مجدداً لائحة مختلفة، فيها حقائب الدفاع والتربية والتعليم والشباب والرياضة ولا ذكر فيها للداخلية، فرفضها أيضاً. من بعد اللائحة تلك، قبل الوصول الى آخر اللوائح في 23 كانون الأول، صيغة جمعت حقائب الدفاع والطاقة والتربية والتعليم والبيئة والصناعة والثقافة. رفضها الرئيس أيضاً لخلوّها من حقيبتَي الداخلية والعدل. في 23 كانون الأول، تسلّم عون لائحة جديدة فيها الداخلية والطاقة والعدل والاتصالات والشؤون الاجتماعية والصناعة. لكن سرعان ما تخلّى عنها الرئيس المكلف وعاد الى المطالبة لنفسه بحقيبتَي الداخلية والعدل، بعدما كان رئيس الجمهورية قد اقترح عليه ثلاثة أسماء لحقيبة الداخلية: ضابطان متقاعدان هما: موريس سليم وجان فريحة، ومدني هو الأستاذ الجامعي عادل يمّين. غداة هذا الاجتماع، حضر الحريري الى قصر بعبدا حاملاً معه ملفاً، فيه صور ليمّين مع رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر، ليقول إن مرشحه ليس اختصاصياً بل حزبي مكتوم.
عندما يُسأل رئيس الجمهورية عن كل هذا المآل من المسوّدات المقترحة المتراكمة فوق طاولة مكتبه، لا جواب قاطعاً عنده سوى تأكيده أن لا مساومة على حقيبة الداخلية، ولن يتنازل عن التمسك بها. لا يوصد الباب على مناقشة تتصل بحقيبة العدل، منفتح على التخلّي عن حقيبة الاتصالات. وهي حقائب حملها إليه الحريري بنفسه في مسوّدة 23 كانون الأول.
بيد أن عون يضيف: «لا أحد يفرض على رئيس الدولة التنازل عن المعايير الدستورية الحتمية لتأليف حكومة متوازنة. بحسب الدستور، أنا مؤتمن على بناء السلطة الإجرائية. أُجري الاستشارات النيابية الملزمة، أسمّي الرئيس المكلف، أشارك في التأليف من خلال مراجعتي الصيغة الحكومية المقترحة عليّ، أصدر مراسيمها، أقبل استقالة رئيس الحكومة وأوقّع إقالة الوزير».
عون: عندما تكون الداخلية والعدل والمدعي العام التمييزي لرئيس الحكومة فذلك يعني سيطرته على الأمن والقضاء


يكمن امتعاض عون في أن الحريري يمنع عن الكتلة المسيحيّة الكبرى في مجلس النواب ما يتبرّع به للكتلة الشيعية الكبرى والوحيدة المتمثلة في الثنائي الشيعي، إذ يمنحها ما تصرّ عليه وهي حقيبة المال، ويطلق يديها في اختيار وزرائها، وكذلك يفعل مع النائبين السابقين جنبلاط وفرنجية في تسميتهما وزيريهما. هذه المرة، بحسب ما يقول الرئيس، «ستكون حقيبة الداخلية عندنا. عندما تكون حقيبتا الداخلية والعدل عند رئيس الحكومة، أضف إليهما المدعي العام التمييزي، فذلك يعني وضع الأمن والقضاء في عهدته. يكبس على الزر ساعة يشاء ويُطفئه ساعة يشاء».
ما يقوله رئيس الجمهورية الآن، وأعاده على الرئيس المكلف مراراً، إن تأليف الحكومة «ليس شغلتي. اذهب الى رؤساء الكتل واحكِ معهم، ثم ائتِ إليّ بمسوّدة. أراجعها، أدقّق فيها، أناقشها وزيراً وزيراً ثم أوقّع أو لا». سوى ذلك، لا تبصر أيّ حكومة النور.
مع أن البعض يشيّع أن اجتماع اليوم قد يكون فرصة أخيرة، بيد أن الصواب أن ليس في لبنان فرصة أخيرة. بل دائمة مفتوحة على الأزمات والتسويات.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا