الأوروبيون لن يشاركوا في استراتيجية احتواء الصين السعودية وإسرائيل حليفان مزعجان بنظر فريق بايدن

منذ وصوله إلى الرئاسة، اعتمد جو بايدن وفريقه خطاباً تصعيدياً حيال الصين وروسيا في آن معاً، على رغم تأكيده وجود مجالات للتعاون المشترك معهما. وهو أوضح، في مناسبات عدّة، أن وحدة المعسكر «الديموقراطي»، وفي قلبه الولايات المتحدة وأوروبا، هي السبيل الأنجع للتصدّي للتهديدات الناجمة عن صعود دور البلدين على النطاق الدولي، بالنسبة إلى مصالح دول هذا المعسكر و»قيمه». ضرورات هذه المواجهة الصعبة، وأولويتها بالنسبة إلى الموقع الدولي المهيمن للولايات المتحدة، هي التي تحفّز فريق بايدن على ما يُسمّيه فيليب غولوب، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس، «تخفيض التزاماته في الشرق الأوسط». غير أن عقبات كثيرة، بعضها مرتبط بتحوُّلات الرأسمالية المعولمة وبتباين المصالح بين لاعبيها الدولتيين وغير الدولتيين، ستُضاعف المشاقّ أمام الإدارة الأميركية الجديدة. لغولوب مؤلّفات عديدة، آخرها «صعود شرق آسيا وتحوُّلات النظام الدولي»، وعشرات الدراسات والمقالات المتمحورة حول السياسة الخارجية الأميركية


يعتقد فيليب غولوب أنه «ينبغي تحليل العلاقات الصينية ــــ الأميركية والتوتُّرات التي تُسبّبها في النظام الدولي، في سياق صعود القوة الصينية المستمرّ منذ الإصلاحات الليبرالية التي قام بها دينغ سياو بينغ، والتي أدّت إلى تغييرات عميقة في الصين، وجعلت منها قطباً مهمّاً في النظام الرأسمالي الإقليمي في آسيا، ومن ثمّ العالمي. لقد تضاعَف الناتج المحلّي في هذا البلد حوالى 40 مرة خلال العقود الأربعة الماضية، وهو أضحى ثاني أكبر قوة اقتصادية على الصعيد الدولي. هذا الصعود التدريجي للقوة الاقتصادية الصينية، الفائق السرعة على المستوى التاريخي، والذي يُذكّر بالصعود الياباني في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين، يُقلِق النخب الأميركية، وخاصة تلك المعنيّة بالسياستين الخارجية والأمنية، لأنه يهدّد التوازنات التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية في منطقة المحيط الهادئ، وعلى النطاق الدولي بشكل عام. صيرورة الصين قوة عظمى رأسمالية هو الإشكالية، لأنه يؤدّي إلى إعادة النظر في هيكلية النظام الدولي، والأبعاد الأمنية والجيوسياسية مترابطة عضوياً بهذا البعد، أي بموقع الصين في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
ولكن، وعلى رغم إجماع النخب الأميركية على أن الصين هي التحدّي الاستراتيجي الرئيسي بالنسبة إليها، فإن اللافت هو أن أقطاب فريق جو بايدن، بدءاً بالرئيس نفسه وبوزير خارجيته أنتوني بلينكن، يعتبرون أن روسيا تُمثّل أيضاً تحدّياً استراتيجياً مصيرياً، ولا يسعون إلى تحييدها، على الأقلّ للتفرُّغ لمقتضيات المواجهة مع الأولى. يقول غولوب إن «الذين لديهم قراءة موضوعية للوضع الدولي يعلمون أن روسيا لا تُمثّل تحدّياً مماثلاً لذلك الذي تُجسّده الصين على مستوى القدرات الفعلية وتلك الكامنة. خُمْس سكّان العالم في الصين، وقدراتها على التأثير والتدخُّل في شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادئ أكبر بكثير من تلك الروسية. اقتصادها يشهد نموّاً مستمرّاً منذ 4 عقود، بينما الاقتصاد الروسي عانى من الكساد لفترات طويلة، وعاد إلى الانتعاش نسبياً، ولكن ليس إلى الدرجة التي ترضي طموحات القيادة في موسكو. هناك اختلال واضح في موازين القوى بين البلدين، والخطاب الدبلوماسي الأميركي حيال روسيا مبالَغ فيه. هناك عدّة مشكلات في العلاقات الثنائية الأميركية ــــ الروسية، بينها شروع روسيا في تعزيز ما تراه دائرة نفوذها التقليدية في القوقاز وآسيا الوسطى وقسم من أوروبا الشرقية، كالمجر مثلاً، وجهودها لتطوير ترسانتها العسكرية، وخاصة تلك النووية، ولصواريخ جديدة عابرة للقارات، مع أن إنفاقها في هذا الميدان لا يمكن مقارنته بذلك الأميركي، وعملياتها الأمنية السيبرانية في الولايات المتحدة وبلدان أخرى. إضافة إلى ذلك، فإن لروسيا، من منظور المسؤولين الأميركيين، صلات متنامية مع عدّة بلدان أوروبية، وخاصة في المجال الاقتصادي، مع ألمانيا مثلاً، وهو أمر يثير مخاوف فريق بايدن تجاه متانة التحالف العابر للأطلسي. غير أن جميع هذه الوقائع لا تضع روسيا في موقع يوازي ذلك الذي تحتلّه الصين كتهديد استراتيجي».
المطلوب بنظر النُّخب الأميركية المعنيّة بالشؤون الاستراتيجية هو تركيز أقصى الجهود على آسيا


رأب الصدع في علاقات الولايات المتحدة بحلفائها الأوروبيين هو من بين الأولويات المعلَنة للإدارة الحالية، أساساً لمواجهة مفاعيل صعود القوّتَين الصينية والروسية، غير أن تبايناً موضوعياً في المصالح الأوروبية والأميركية قد يُمثّل عقبة جدّية أمام توجُّهات هذه الإدارة. «العلاقات مع روسيا والصين قضية بالغة الأهمية والتعقيد، وتتضمّن أبعاداً عدّة تشمل الدول والشركات الخاصة، أي الرأسمال المعولم الذي يتحرّك على النطاق العالمي وفق منطق مختلف في كثير من الأحيان عن ذلك الذي يتحكّم بسياسات الدول. النُخب السياسية والاقتصادية الألمانية، وبدرجة أقلّ الإيطالية وحتى الفرنسية، عملت على تطوير تبعية اقتصادية متبادلة مع روسيا في ميدان الطاقة، ومع الصين في الميدان التجاري. الأمر لا يقتصر على استثمارات الشركات الألمانية في الصين في صناعة السيارات والقطارات والإلكترونيات، بل هو يتعدّاها ليشمل الصادرات الألمانية المُتقدِّمة تكنولوجياً إلى الصين، التي تُشكّل بالنسبة إلى برلين سوقاً شديدة الحيوية منذ أكثر من 20 عاماً. انهيار اقتصادي للصين سيمُثّل كارثة اقتصادية بالنسبة إلى ألمانيا، نظراً إلى الأرباح الهائلة التي تُحقّقها الأخيرة في الأولى. ألمانيا لن تنضمّ إلى استراتيجية احتواء الصين التي تقودها واشنطن، لأنها تتعارض مع مصالحها الموضوعية. تنطبق هذه الحقيقة أيضاً على إيطاليا التي استثمرت صناعاتها بكثافة في الصين، ولها مصلحة في تصدير منتجاتها المتطوّرة تكنولوجياً إليها. إيطاليا أيضاً لن تشارك في مثل هذه الاستراتيجية. لأوروبا تقاليد اقتصادية إن صحّ التعبير، لا تسمح لها بالاندراج في مواجهة مسعورة مع بكين. نستطيع أن نلحظ اعتبارات مماثلة ستؤثّر في مواقف بلدان أخرى في العالم من الصين.
هذا بالنسبة إلى الدول. أمّا الرأسمال المعولم، فيمكننا أن نشير مثلاً إلى أن الفترة التي خاض خلالها دونالد ترامب حربه التجارية على الصين، بهدف الحدّ من قدرتها على الحصول على التكنولوجيا الأميركية المتطوّرة، وتدمير شبكات الإنتاج والتوزيع العالمية التي بنتها في العقود الماضية، لم يكن لها سوى وقع ضعيف على تدفُّق الرساميل نحوها. نجح ترامب في دفع بعض الشركات الأميركية إلى نقل مصانعها إلى الهند أو فيتنام، وتلك المنتِجة للرقائق الإلكترونية إلى فسخ شراكتها مع بكين، لكنه لم يستطع إيقاف تدفُّق الرساميل، بما فيها تلك القادمة من مراكز مالية أميركية، نحوها. وقد رأينا تزايداً في مثل هذه التدفُّقات منذ أكثر من سنة، المتّجهة للاستثمار في القطاع الصناعي أو في الأسواق المالية الصينية. وقد أدى قرار السلطات الصينية تحرير قطاعات الاستثمار الدولي على المستوى المالي إلى تعاظم هذا الاتجاه. تمّ تحرير الأسواق المالية لتستقبل رساميل آتية من أنحاء العالم، ومن ضمنه الولايات المتحدة. لا بدّ من الالتفات إلى التناقض الواضح بين الأهداف العالمية لرأس المال التي تتجاوز بقدر وازن الاعتبارات السياسية، من جهة، وبين الحسابات الجيوسياسية للدولة الأميركية، من جهة أخرى. هناك تناقض في وسط النُخب الأميركية، غير الموحّدة في الواقع، بين قطاع يُمثّل منطق الدولة الجيوسياسي، وآخر يضمّ كتلة معتبَرة من النخبة المالية».

لأوروبا تقاليد اقتصادية إن صحّ التعبير، لا تسمح لها بالاندراج في مواجهة مسعورة مع بكين


إلى أيّ مدى سينعكس تفرُّغ الولايات المتحدة لأولوية التصدّي لنموّ النفوذ الصيني على سياستها الشرق أوسطية، وعلى أهمّية المنطقة في جدول أعمال الإدارة الحالية؟ «هناك استمرارية في السياسة الأميركية حيال الصين منذ عهد باراك أوباما. سيمضي بايدن فيها في ظلّ ظروف غير مؤاتية للولايات المتحدة لأن موقعها الدولي تراجَع في السنوات الأخيرة. المطلوب بنظر النُخب الأميركية المعنيّة بالشؤون الاستراتيجية، في مقابل دولة تزداد قوة على المستوى الاقتصادي، وتنمو ميزانيتها العسكرية باطّراد، وكذلك تأثيرها الدولي، هو تركيز أقصى الجهود على آسيا. وبالنسبة إلى تلك النُخب، فإن منطقة الشرق الأوسط التي تشهد نزاعات لا نهاية لها، شاركت الولايات المتحدة في تأجيجها، أصبحت تحتلّ موقعاً ثانوياً من حيث الأهمّية. المعركة التي ستُحدّد مستقبل العالم تخاض في بقعة أخرى. علاوة على ذلك، فإن أفرقاء النزاعات في الشرق الأوسط هم إمّا خصوم لأميركا أو حلفاء مزعجون، كإسرائيل نتنياهو وسعودية ابن سلمان. هاتان الدولتان تُمثّلان بالنسبة إلى إدارة بايدن، كما كانت الحال أيام أوباما، حليفَين مزعجَين يصعب التعامل معهما. لن تتخلّى الولايات المتحدة عن إسرائيل لأنها جزء من منظومتها الاستراتيجية، وكذلك من سياستها الداخلية، وخاصة في الكونغرس، ولا عن السعودية أيضاً نظراً إلى موقعها الإقليمي ووزنها في سوق النفط العالمي. غير أن الولايات المتحدة مضطرة إلى تخفيض التزاماتها في هذه المنطقة، لتخصيص القسم الأعظم من مواردها المتراجعة، السياسية والاقتصادية والبشرية، وكذلك الفكرية، للمهمّة الكبرى، وهي النجاح في احتواء الصين. عندما قَرّر أوباما توقيع الاتفاق النووي مع إيران، فعَل ذلك انطلاقاً من مقاربة واقعية على الرغم من معارضة إسرائيل والسعودية. هو سعى إلى إعادة صياغة العلاقات مع السعودية، من دون أن يؤدي ذلك إلى القطيعة معها، وهو ما يريد بايدن القيام به اليوم. هو يأمل أيضاً أن يقنع حكومة نتنياهو بوقف الاستيطان الوحشي، والعودة، ولو على المستوى اللفظي، إلى الالتزام بفكرة التسوية، التي نعلم جميعاً أنها لم تَعُد واردة على أرض الواقع»، يختم غولوب.

مفكّر أميركي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا