الفوز بالتصويت الشعبي شيء، والفوز رسمياً شيء آخر. بهذه العبارة يُختصر النظام الانتخابي الأميركي المعقّد، وبها يُنقل الواقع المضحك المبكي الذي عانى منه الديموقراطيون في الانتخابات الرئاسية لعامي 2000 و2016، من دون إغفال إمكانية تكراره خلال الانتخابات المقبلة، بعد أسبوعين. قبل أربعة أعوام فقط، خسِر الديموقراطيون الانتخابات، على الرغم من أنهم حصلوا على العدد الأكبر من الأصوات، بينما فاز الجمهوريون مع أنهم نالوا أصواتاً أقلّ. لا يزال الديموقراطيون يعيشون على وقع صدمة تلك الانتخابات؛ فالأرقام تقول حقيقتها المرّة، وهي تشير إلى أن هيلاري كلينتون حازت 48.18% من الأصوات، بينما استحوذ دونالد ترامب على 46.06% من التصويت الشعبي. واقعٌ يخافون تكراره، في ظلّ وجود معضلة تتمثّل في ما يُسمّى «المجمع الانتخابي». تاريخياً، وُضع هذا النظام ليأخذ التصويت الشعبي في الاتجاه الذي تراه الولايات مناسباً. وبتوصيف أدقّ، إنه «أغرب جزء من الديموقرا--طية الأميركية»، وفق شبكة «سي إن إن»، التي تذهب إلى حدّ التأكيد أنه «نظام محيّر يملك تاريخاً مضطرباً وماضياً قبيحاً». ولكن ما هو «المجمع الانتخابي»؟ بتفسير مبسّط، يكفي القول إن الناخبين الأميركيين لا يختارون رئيسهم مباشرة. بدلاً من ذلك، هم يصوّتون لـ538 ناخباً، يجتمعون في ولاياتهم ويصوّتون لمنصب الرئيس ونائب الرئيس. هؤلاء يؤلّفون «المجمع الانتخابي»، وأصواتهم هي التي تُحسَب من قِبَل رئيس مجلس الشيوخ، خلال جلسة مشتركة للكونغرس. وُضع هذا النظام الانتخابي في القرن الثامن عشر، لأسباب عديدة، منها القلق من أن الناخبين لن يتّخذوا قرارات «مستنيرة»، وفي ذلك إشارة تحديداً إلى الولايات التي لديها أكبر عدد من الناخبين. وفق تعبير مجلّة «ذي أتلانتك»، فإن الانتخابات الأميركية تتمتّع بتاريخ حافلٍ من الاستحقاقات العرقية، فهي لا تمنح الأميركيين السود امتيا-زاً. وبتعبير أدق للمجلّة ذاتها، فقد عزّزت المؤسّسات الأميركية القوة السياسية للبيض بطرق عديدة، فكان «المجمع الانتخابي» أقدم برنامج للعنصرية البنيوية في البلاد. كيف ذلك؟ تشرح المجلّة أن السكّان في الشمال والجنوب كانوا متساوين تقريباً، لكن ما يقرب من ثلث أولئك الذين يعيشون في الجنوب كانوا مستعبَدين، أي إنه نظراً إلى وجود عدد كبير من العبيد، الذين لا يحقّ لهم التصويت، سيكون لتلك المنطقة نفوذٌ أقل في ظلّ نظام التصويت الشعبي. حينها، فضّل البعض أن يقوم الكونغرس باختيار الرئيس، بينما كانت هناك اقتراحات بأن يجري التصويت الشعبي على المستوى الوطني، ثمّ جاءت فكرة «المجمع الانتخابي» لتكون حلّاً وسطياً، عبر طريقة يمكن أن تستفيد من تسوية الثلاثة أخماس، التي قاموا عبرها بتحديد كيفية تقسيم مقاعد الكونغرس. كانت «الثلاثة أخماس» عبارة عن اتفاق لحلّ وسط بين المندوبين من الولايات الشمالية والجنوبية في المؤتمر الدستوري للولايات المتحدة (1787). وفي ذلك الحين، جرى البحث في كيفية احتساب العبيد من إجمالي عدد سكان الولاية، لتحديد عدد مقاعدها في مجلس النواب، ومقدار الضرائب التي ستدفعها. توصّلت التسوية إلى احتساب ثلاثة من كلّ خمسة عبيد كأشخاص، ما أعطى الولايات الجنوبية مقاعد أكثر بمقدار الثلث في الكونغرس، وثلث الأصوات الانتخابية، أي أكثر ممّا لو تمّ تجاهل العبيد، ولكن أقلّ ممّا لو تمّ احتسابهم مع «الأحرار»، بالتساوي. وإن كان من توضيح لما حصل، فيكفي الإشارة إلى ما ذكرته «ذي أتلانتك»، من أن «المجمع الانتخابي» أعطى حافزاً للولايات الجنوبية (ذات الميول الجمهورية)، وكان سبباً في تفضيل أصوات البيض على حساب غيرها، حتى يومنا هذا.
تزايدت الدعوات من قِبَل الديموقراطيين إلى إلغاء «المجمّع الانتخابي» منذ عام 2000


تقنياً، تَقرّر أن يضمّ «المجمع الانتخابي» 538 ناخباً، بواقع ناخب لكلّ عضو في مجلس النواب (435)، ومثله لكلّ عضو في مجلس الشيوخ (100)، إضافة إلى ثلاثة ناخبين إضافيين للأشخاص الذين يعيشون في مقاطعة كولومبيا. ولكن ذلك طرح الكثير من الأسئلة، وأهمّها كيف تمّ احتساب أصوات «المجمع الانتخابي»، ليأتي الجواب بأن كلّ ولاية تحصل على ثلاثة ناخبين على الأقلّ. مثلاً، ولاية كاليفورنيا، الأكثر اكتظاظاً بالسكان، فيها 53 عضواً في الكونغرس وعضوان في مجلس الشيوخ، لذا فهي تحصل على 55 صوتاً انتخابياً. أمّا تكساس، أكبر ولاية ذات ميول جمهورية، فلديها 36 عضواً في الكونغرس وعضوان في مجلس الشيوخ، لذا فهي تحصل على 38 صوتاً انتخابياً، وإذا فاز مرشح جمهوري بـ50.1 % من أصواتها، فإنه يحصل على جميع أصوات «المجمع الانتخابي للولاية». ولكن سبع ولايات (ألاسكا، وديلاوير، ومونتانا، ونورث داكوتا، وفيرمونت، ووايومينغ، إلى جانب العاصمة واشنطن) هي ولايات صغيرة جداً من حيث عدد السكان، ولا يملك كلّ منها سوى عضو واحد في الكونغرس، ما يعني حصولها على النسبة الأدنى من الأصوات الانتخابية. وبالنسبة إلى الأميركيين الآخرين، مثل أولئك الذين يعيشون في بورتوريكو، فلا يحصلون على أصوات انتخابية، على رغم أنه يمكنهم المشاركة في الانتخابات التمهيدية الرئاسية. ويمكن للبورتوريكيين التصويت لمنصب الرئيس، إذا غادروا للعيش في إحدى الولايات. من جهة أخرى، فإن الولايات هي المسؤولة عن اختيار ناخبيها، وهناك عدد منها لا يطلب من ناخبيه احترام نتائج التصويت، الأمر الذي أدى، من حين إلى آخر، إلى الظاهرة المعروفة باسم «الناخب الخائن».
من وجهة نظر البعض، فإن التصويت الشعبي لا معنى له على الإطلاق. ولكن وفق العديد من الخبراء، فإن هذا الأمر ليس صحيحاً تماماً، إذ إن معظم الولايات (باستثناء مين ونبراسكا اللتين تقومان بتقسيم أصوات المجمع الانتخابي بحسب نسبة الأصوات التي يحصل عليها كلّ مرشح) تعطي كلّ أصواتها الانتخابية للشخص الذي يفوز بالتصويت الشعبي في تلك الولاية، وهو الأمر ذاته الذي يرى فيه آخرون نوعاً من الظلم، على اعتبار أنه يتجاهل بقية الأصوات، وهو ما انعكس خلال انتخابات عامي 2000 و2016. ومن هذا المنطلق، تزايدت الدعوات من قِبَل الديموقراطيين إلى إلغاء «المجمع الانتخابي»، منذ عام 2000. حتى إن دونالد ترامب نفسه وصف هذا النظام بـ«الكارثة» في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، بعد فوز باراك أوباما الكبير في التصويت الشعبي و»المجمع الانتخابي»، وذهب إلى حدّ الدعوة إلى «ثورة»، وإلى «القتال» بهدف إلغاء هذا النظام. بيد أنه لم يلبث أن غَيّر لهجته، بعدما فاز في عام 2016 عبر أصوات «المجمع الانتخابي»، واصفاً النظام نفسه بـ«العبقري».
زد على كلّ ما تقدّم أن عدداً كبيراً من الخبراء يرى أن الأمر لن يكون لصالح الديموقراطيين، لفترة طويلة، إذ حسمت مجلّة «نيوزويك» نتائج «المجمع الانتخابي» لصالح الجمهوريين، معتبرة أن من المتوقع أن يفوز هذا الحزب بأغلبية كبيرة في كلّ الانتخابات الرئاسية المستقبلية، حتى في المنافسات التي يخسر فيها التصويت الشعبي. ووفقاً لدراسة حديثة استندت إليها المجلّة، يمكن لمرشّحي الحزب الجمهوري أن يتوقّعوا الفوز في 65 في المئة من الانتخابات الرئاسية المستقبلية، بل إن الباحثين في جامعة تكساس في أوستن، الذين سعوا إلى تحليل السبب وراء حدوث «انقلابات» في الأرقام بين التصويت الشعبي و»المجمع الانتخابي»، وجدوا أن النهج الذي يعتمد على أن الفائز الذي يحصد أكبر نسبة تصويت شعبي في ولاية ما يحصد كلّ مقاعد تلك الولاية في «المجمع الانتخابي» يميل لصالح الجمهوريين، وقد دفعهم إلى تحقيق انتصارات في عامي 2000 و2016. وقد خلص هؤلاء الباحثون إلى أن «الانقلابات» ستقع، أكثر فأكثر، في عام 2020 وما بعده، إلّا إذا أدّى تغيير السياسة إلى حلّ «المجمع الانتخابي» بالكامل، بدلاً من إصلاحه.
الدراسة التي نشرها «المكتب الوطني للبحث الاقتصادي»، الشهر الماضي، وجدت أن ثلث المرشّحين الرئاسيين الذي يفوزون بالتصويت الشعبي بأقلّ من نقطتين مئويتين، يمكن أن يخسروا التصويت في «المجمع الانتخابي». وفي السباقات التي يتمّ تحديدها بأقلّ من نقطة مئوية واحدة، هناك احتمال بنسبة 45 في المئة لأن يخسر الفائز في التصويت الشعبي، «المجمع الانتخابي». «ما هو أساسي بالنسبة إلى المجمع الانتخابي، أن الانقلابات من المحتمل أن تحصل في حال كانت هناك انتخابات متقاربة»، وفقاً لأحد المشاركين في الدراسة دين سيبرز، الذي قال لصحيفة «هافينغتون بوست»: «الآن، في هذه اللحظة التاريخية، فإن الجمهوريين لديهم الأفضلية. ولكن يمكن لذلك أن يتغيّر».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا