كانت المراسم باهتة وباردة، رسمية جداً وكئيبة، وكأن شيئاً ما يقلق الأطراف الثلاثة (الأميركي والإسرائيلي والبحريني) الذين اجتمعوا في المنامة أمس. كان الإسرائيليون يأملون توقيع «معاهدة كاملة»، على غرار تلك المُوقّعة مع الجانب الإماراتي، في منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، بيد أن الجانب البحريني، لدواعٍ لم يوضحها علناً، فَضّل توقيع مذكرات تفاهم في هذه المرحلة، وهو أمر تَفّهمه أصدقاؤه، لكنه قَلّل من نشوتهم؛ فالمذكّرات أقلّ رتبة من الناحية القانونية من المعاهدات الدولية، التي عادة ما تقرّها المؤسسات التشريعية في البلدان، وتودَع في الأمم المتحدة.
لعلّ الوفد الإسرائيلي يدرك مقدار الصعوبات التي تواجه حكومة المنامة في إقناع الرأي العام البحريني، الموالي والمعارض، المعادي للاحتلال والمؤيّد للفلسطينيين، بجدوى إقامة علاقات مع مغتصبي الأرض العربية. فالوفد الرسمي والصحافي العبري، الواصل إلى المنامة، تفاجأ بأن الصحف البحرينية الرسمية الأربع ووكالة الأنباء الرسمية لم تستقبله بكلمات الترحاب، كما تَوقّع. كذلك، خلت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة حتى من الإشارة إلى ما يوصف بأنه زيارة «تاريخية» يقوم بها وفد «إسرائيلي» للعاصمة الخليجية الصغيرة. ولاحظ الضيوف غير المرغوب فيهم شعبياً، أيضاً، أن «تلفزيون البحرين» تَجنّب نقل بثّ حيّ لوصول الوفدين الأميركي والإسرائيلي إلى مطار البحرين الدولي، على متن رحلة خاصة آتية من تل أبيب. وزادت حيرة العبريين والأميركيين لمّا عَلِموا أن التلفزيون تفادى نقل حفل توقيع سبع مذكّرات في مجالات دبلوماسية واقتصادية وزراعية على الهواء مباشرة، بين مديرين إسرائيليين ووزراء بحرينيين، برعاية وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين، في أعقاب ستّ ساعات من المفاوضات لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقات، التي أُعلنت بموجبها إقامة علاقة دبلوماسية بين البحرين وكيان الاحتلال.
لكن يبدو أن تبادل السفراء لن يستغرق وقتاً طويلاً، وربّما تشهد الشهور الأولى من العام المقبل افتتاح سفارتين، واحدة في تل أبيب، وأخرى في المنامة تحتاج إلى حراسة مشدّدة. وبالفعل، فقد تَقدّم وزير الخارجية الإسرائيلي، غايي أشكنازي، الذي غاب أمس عن حفل التوقيع، بطلب رسمي لفتح سفارة إسرائيلية في الجزر البحرينية.
مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات، الذي رأس الوفد العبري، تَحدّث بمجرد نزوله إلى أرض المطار البحريني عن التطلّع إلى علاقات بين الشعبين، وليس فقط بين الحكومتين، ولعلّه يعي - بعد أن أمضى في البلاد نحو ستّ ساعات - تعقيدات ذلك، في ظلّ مقاطعة شعبية متوقعة، وستكون شاملة، بحقّ أيّ تاجر أو رجل أعمال يستورد بضائع من كيان الاحتلال. ويُتوقع أن يمتنع غالبية رجال الأعمال، حتى القريبون من القصر، عن المخاطرة بإبراز تبادلهم التجاري مع الطرف الصهيوني المنبوذ بحرينياً.
وقد بدا ملحوظاً غياب الحديث عن التعاون الأمني والتنسيق الاستخباري والتعاون في مجال الأمن السيبراني في خطاب المتحدّثين الرسميين الإسرائيليين والأميركيين والبحرينيين خلال حفل التوقيع أمس، على الرغم من إسرائيل فَضّلت أن ترسل مستشارها للأمن القومي ليرأس وفدها المفاوض. كما تَجنّب المتحدّثون الإشارة إلى إيران، فيما يمضي الأطراف الثلاثة علناً في انشاء حلف عسكري مُوجّه ضد طهران. مع ذلك، يُعتقد أن جوهر التعاون البحريني - العبري لن يكون اقتصادياً، بل أمنياً، وسينصبّ على مواجهة إيران والقوى المقاومة التي يراها الأطراف الثلاثة معادية.
تجنّب «تلفزيون البحرين» نقل بثّ حيّ لوصول الوفدين الأميركي والإسرائيلي


ويخشى أطراف في المعارضة البحرينية أن تكون على قائمة المستهدَفين، في ظلّ اصطفافها ضدّ عمليات التطبيع. ومنتصف الشهر الجاري، أعلن الملك البحريني، حمد بن خليفة، تأسيس مركز للأمن السيبراني، يُعتقد أن خبرات إسرائيلية ستدعمه. وجاء إعلان إنشاء المركز بعد نحو أسبوعين من وصول رئيس جهاز «الموساد» إلى المنامة. لذا، فإن عدم إيراد التعاون الأمني والاستخباري ضمن مجالات التعاون المشتركة بين الجانبين قد يعكس وجود بنود سرّية للبيان المشترك، ربّما تظلّ سرّية حتى بعد توقيع اتفاقية كاملة.
ويواجه أطراف الاتفاق الثلاثة مشكلات شعبية حقيقية؛ فقد كان متوقعاً أن تنعكس عمليات التطبيع إيجاباً لصالح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، بيد أن مجمل المعلومات المتوافرة تعطي انطباعاً مخالفاً. وبحسب استطلاعات الرأي، حتى هذه اللحظة على الأقلّ، يُرجّح أن يخسر ترامب الانتخابات المرتقبة في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل لصالح منافسه الديمقراطي جو بايدن. ومن هنا، ربّما يفضل القصر البحريني إرجاء توقيع الاتفاق الشامل إلى ما بعد اتضاح مسار الانتخابات في واشنطن. ويُعتقد أن تزايد احتمالات فشل الرئيس الجمهوري في تحقيق ولاية رئاسية ثانية قد يضعف زخم عمليات التطبيع، بحرينياً وسودانياً، وإن مؤقتاً. وقد يمنح ذلك الحكومة البحرينية، في المقابل، فرصة إقامة احتفالات أكبر مما يقام اليوم، بتوقيع معاهدة كاملة في حضرة الرئيس الذي سيحوز غالبية أميركية في يوم الثلاثاء الكبير.
وتنطوي المذكّرات التي وُقّعت على عجل، أمس، على مجاملة بحرينية واضحة لترامب بغية دعمه في حملته الانتخابية المترنّحة، لكنها لا تغلق الباب أمام إنجاز اتفاق أشمل مطلع العام المقبل. ويستند افتراض المجاملة إلى أن مدّة الثلاثة أسابيع الماضية لم تكن كافية لكتابة اتفاقية بحرينية - عبرية أكثر توسّعاً. فقد تَكثّفت المفاوضات بين الحكومتين، كما يعُتقد، في 23 أيلول/ سبتمبر الماضي، بوصول وفد تفاوضي عبري إلى المنامة، وبالتزامن مع اتصال هاتفي جرى بين نتنياهو وولي العهد البحريني، سلمان بن حمد آل خليفة، من أجل تحويل «اتفاق النوايا» الموقّع في منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي في البيت البيض إلى اتفاق أكثر تفصيلاً. الإمارات وإسرائيل كانتا احتاجتا إلى شهور طويلة من المفاوضات التي تُوّجت بتوقيع المعاهدة التي صدّق عليها «الكنيست» قبل أيام. وقد أظهر توقيع «اتفاق النوايا»، قبل شهرين، البحرين، وكأنها ملحقة بالإمارات، كما عكس حجم الهرولة البحرينية نحو التطبيع، حتى قبل أن تَجهز الاتفاقات للتوقيع.
وفي مواجهة المُعبّرين عن رفضهم لـ»اتفاقات الخيانة» كما سَمّتها الجهات البحرينية المناهضة للخيارات الرسمية، لجأ القصر إلى التهديد باتخاذ إجراءات أمنية. ويُعتقد أن «جمعية مناهضة التطبيع» ستكون في مقدّمة المستهدَفين من مؤسسات المجتمع المدني، سواء عبر حلّها أو تجميد نشاطها أو الزجّ بأعضاء ميّالين إلى الطرف الرسمي ضمن مجلس إدارتها، بما يعيد إلى الأذهان الكيفية التي وضعت الحكومة بها يدها على جمعيتَي المحامين والأطباء في أعقاب حركة الاحتجاج في 2011.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا