لا يكلّ المسؤولون في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من التعامل مع هذا المرفق على أنه مغارة علي بابا. كلّما سمحت الفرصة للتواطؤ على القوانين ومخالفتها، استُحضرت «التنفيعة». وفي هذا المكان بالذات، أبواب التنفيعات كثيرة ولا تقتصر على مصلحة معينة أو طابق معين، وإنما تطال أي مكان يسهل فيه العبور فوق القانون.مطلع أيلول الجاري، فاجأ المدير العام للصندوق، محمد كركي، «أهل» الضمان بإعادة إحياء عقد خدمات قديم وتجديده خلافاً لأيّ نص قانوني، وخلافاً لأيّ رأي آخر صادر عن أهل الاختصاص. ويبدو أن لهذا العقد خاصية تجعله فوق القانون، تتعلّق بهوية صاحبه محمد سليمان الذي «يصادف» أنه ابن أحد أعضاء مجلس الإدارة في الصندوق مهدي سليمان. وهذا تعريف «كافٍ» لفهم سبب الإصرار على التجديد، رغم مرور أربع سنوات على رفض مجلس الإدارة تجديده لعدم استيفائه الشروط. وبحسب ما يرِد في نص القرار الموقّع بين الطرفَين، كركي وسليمان، توكل إلى الأخير إدارة فريق الدعم المعلوماتي في الصندوق لمدة سنة كاملة بكلفة 36 مليون ليرة «تُدفع على 6 دفعات متساوية في نهاية كل شهرين، بناء على تقرير منه بالخدمات المنفّذة يقترن بموافقة مدير الإحصاء وتنظيم أساليب العمل».
بغضّ النظر عن أولى المخالفات المتعلّقة باستجداء عضو مجلس الإدارة منفعة شخصية، يحمل هذا العقد جملة مخالفاتٍ أخرى، ليس أقلها القفز فوق القوانين والأنظمة المالية والداخلية في الصندوق. في المبدأ، وبحسب ما تنصّ عليه الفقرة الثالثة من المادة 124 من النظام المالي في الصندوق، يُفترض بمن يجري التعاقد معه لقاء الخدمات المطلوبة أن يكون صاحب اختصاص في مجال معين غير متوفّر أصلاً في السوق. وفي حالة سليمان، لا يبدو أن هذا الشرط متوفّر. إذ عدا عن كون لا فرادة في اختصاصه، فإنه أيضاً «غير حائز على شهادة اختصاص»، بحسب ما يؤكّد أحد أعضاء مجلس الإدارة. إذ أن ما يحوزه سليمان، بحسب العقد، هو «متابعة دراسة الامتياز الفني في اختصاص المعلوماتية الإدارية»، وعدد من الدورات، منها «ست دورات متخصصة في مجال المعلوماتية في إطار شهادة MSCE وشهادة MICROSOFT CERTIFIED PROFESSIONAL، إضافة إلى حيازته خبرة عملية في هذا المجال».
لا شهادة وهذه أولى المخالفات، لكنها ليست الأبرز. المخالفة الأوضح، بحسب معظم أعضاء مجلس الإدارة، هي أن «الوظيفة» الموكلة إلى صاحب العقد «غير موجودة أصلاً»، لأن أعمال المكننة وإدارتها منوطة بشركة IDS الخاصة بموجب عقد، هو الآخر موضع خلاف اليوم. وهذا ما يعزّز فرضية «المنفعة الشخصية». أضف إلى ذلك أن المدير العام، بحسب القانون، يفترض به عند التعاقد أن يرفع إلى مجلس الإدارة في كل عام كتاباً «بحاجته لعقد أشغال بالتراضي مع وضع الأسباب الدافعة لذلك التعاقد كي تجري الموافقة على المبالغ التي يجب رصدها»، على ما يقول أحد الأعضاء. وهذا ما لم يفعله المدير العام، مخالفاً في ذلك الفقرة العاشرة من المادة 124. ولا تتوقف هذه المخالفات عند هذا الحدّ. فتمادي «الطرف الأول» وصل إلى حدود اختراع «مزراب» لتلك التنفيعة من خلال التحايل على مواد القانون عبر اعتبار الاعتماد متوفراً استناداً لموازنة عام 2018، كونها الموازنة الأخيرة المصدّقة وفقاً للأصول، على أساس القاعدة الإثني عشرية. وهنا، تكمن نقطة الخلاف بين البنود والمواد القانونية التي بني على أساسها الاعتماد. ففي الوقت الذي تلحظ فيه موازنة 2018 الاعتماد على أساس القاعدة الإثني عشرية، إلا أنه في حالة سليمان لا يمكن تطبيق هذه القاعدة، خصوصاً أن عقده يقع تحت بند «نفقات مختلفة»، وبحسب المادة 14، تُعتمد «القاعدة الإثني عشرية في ما يتعلق بالاعتمادات النهائية والتي لها الصفة الدائمة الملحوظة في موازنة السنة السابقة»، وهو ما لا ينطبق على «النفقات المختلفة»، كونها تتغيّر وفي بعض الأحيان تُلغى، أي أنها غير ثابتة، ما يجعل «القرار غير صحيح وباطلاً».
تجديد عقد ابن عضو مجلس إدارة خلافاً للقانون


أما بالنسبة إلى المبلغ الملحوظ لسليمان والذي اشترط دفعه بتقديم تقرير من صاحب العقد بالخدمات المنفذة، فتلك «مغامرة غير محسوبة». إذ طوال السنوات التي قضاها سليمان في عمله في الصندوق، بين 2007 و2016، لم يرفع تقارير بعمله. وهو السبب الذي من أجله رفض مجلس الإدارة تجديد عقده، كما عقود آخرين، ومنهم سعيد القعقور الذي بقي يتقاضى راتباً يتخطى راتب أعلى موظف في الصندوق، ووديعة توما التي تقاضت مبلغاً مقطوعاً بقيمة 54 مليون ليرة سنوياً، بحسب آخر عقدٍ وقّع معها.
ليست المشكلة في محمد سليمان، وإنما في «المال المنهوب» في الضمان على شاكلة عقود خدمات... من دون خدمات، ومقابل بدلات مالية ضخمة. في الثاني من أيلول الجاري، مُرّر عقد سليمان، بعدما كان قد اتُّخذ قرار واضح من مجلس الإدارة ومن المدير الإداري بإنهاء عقده. ويتحضر الصندوق لتمرير عقدين آخرين على شاكلته، الأول لوديعة توما التي كانت قد أُوقفت خدماتها بعدما «سُجنت على ذمة التحقيق إثر ورود اسمها كمشتبه بها في قضية شبكة بعينو»، ولا تزال تخضع للمحاكمة. أضف أنها تطالب اليوم بدفع مستحقاتها عن السنوات التي لم يجدد عقدها. أما العقد الثالث، فهو للمبرمج سعيد القعقور، فعلى رغم المخالفات الفاضحة التي انتهت بفسخ العقد معه بعد ثلاثين عاماً من التجديد، على أن يسلم البرامج فوراً إلى الصندوق، كانت النتيجة أن المسؤولين في الصندوق يحضرون عقداً جديداً له لمدة 6 أشهر، والحجة؟ «إعادة البرامج والتوثيقات»! أما الخبر الإضافي، فهو أن الصندوق الوطني أقرّ خلال الأسبوع الحالي منحاً مدرسية لعددٍ من العاملين في الصندوق، ومنهم القعقور نفسه!«الأخبار» حاولت التواصل مع المدير العام للصندوق للوقوف على رأيه، إلا أنه لم يجب على اتصالاتها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا