المشهد السياسي الدولي الجديد الذي تسعى واشنطن إلى إرسائه في عالم ما بعد «كورونا»، سيكون محكوماً بالعداء لبكين على أكثر من مستوى. وإن تمثّلت بداية التصعيد الأميركي - غير المسبوق - بتحميل الصين المسؤولية عن تفشّي وباء «كورونا»، وقبله إطلاق حرب جمركية عقابية ضدّ العملاق الآسيوي، فإن العلاقات بلغت مبلغاً لا يبدو التراجع معه وارداً، في ظلّ إصرار أميركي على مواصلة تسعير المواجهة. سياسةٌ بات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يضعها عنواناً أول لحملة إعادة انتخابه، أملاً في أن تأتي به رئيساً لولاية ثانية، فيما تشتغل إدارته على تجميع الحلفاء تحت رايتها. صحيح أن الاتحاد الأوروبي لم يذهب بعد إلى حدّ تبنّي الموقف الأميركي إزاء الصين، إلا أن التصريحات التي تخرج من دوله، لمساندة هذا الموقف، باتت تهدّد «التفاهم الودّي» الذي حرص الطرفان الصيني والأوروبي على ترسيخه لسنوات (كان لهذا التفاهم دور رئيس في منع انهيار اتفاقات دولية مهمة مثل اتفاق باريس للمناخ، وفي الحفاظ على دور مؤسسات مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي).
حرصت ألمانيا، بصفتها الشريك التجاري الأوّل للصين، على إشاعة مناخ الثقة بين بكين والعواصم الأوروبية في السنوات الماضية. لكن، في وقت كهذا، بات بعض الحكومات، ومن بينها الحكومة الألمانية، أمام خيارٍ من اثنين: إمّا الإذعان لأوامر الحليف الأميركي، أو الحفاظ على علاقاته مع الصين. حكومة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تسعى، من جهتها، إلى الحفاظ على الشراكة التجارية، والتعاون مع بكين في شأن قضية الاحتباس الحراري، لكنها تذهب إلى حدّ اعتبار «قانون الأمن القومي» الذي فرضته بكين في هونغ كونغ، الشهر الماضي، «تطوراً مقلقاً»، من شأنه أن يقوّض الحكم الذاتي في المستعمرة البريطانية السابقة. في المسألة المتعلّقة بعملاق الاتصالات الصيني، «هواوي»، لم يتّخذ أكبر اقتصاد في أوروبا، لغاية الآن، موقفاً نهائياً، على رغم الضغوط الأميركية لاستبعاد معدّات الشركة مِن شبكة الجيل الخامس. ضغوطٌ نجحت في ثني المملكة المتحدة عن استكمال تعاونها مع المجموعة الصينية لـ»دواعٍ أمنية». غير أن المفوضية الأوروبية أكدت، نهاية الأسبوع الماضي، أن مجموعَتي «نوكيا» و»إريكسون» يمكنهما تزويد الاتحاد الأوروبي بكلّ ما يحتاج إليه لتطوير البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس (5 جي)، إذا تطلّب الأمر استبعاد مجموعة «هواوي»، ذلك أن الأمن، كما تؤكّد المفوضية، «يجب أن يأتي أولاً»، لدى اختيار المورّدين. في الإطار ذاته، جاء التشديد الألماني على لسان وزير الداخلية، هورست زيهوفر، الذي تتولّى بلاده الرئاسة الدورية للتكتّل منذ الأول من تموز/ يوليو الجاري؛ فهو لفت إلى أن «سلامة شبكات الاتصالات هي حجر الزاوية في هندسة آمنة في جميع الدول الأعضاء»، لذا وجب «الحدّ قدر الإمكان مِن جميع المخاطر التقنية وغير التقنية»، بينما أشار وزير الخارجية، هايكو ماس، بعد مؤتمر عبر الفيديو مع نظيره الصيني وانغ يي، الأسبوع الماضي، إلى أن «الصين شريك مهم بالنسبة إلينا، ولكنها أيضاً منافس». وأعرب منسّق الحكومة للتعاون عبر الأطلسي، بيتر باير، بدوره، عن قلقه إزاء ما يجري، معتبراً إياه «بداية حرب باردة ثانية». وفيما انتقد كلا الجانبين، أكّد أن «الولايات المتحدة هي أهمّ شريك لنا خارج الاتحاد الأوروبي، وهكذا ستبقى».
حذّرت بكين من أن العلاقات بينها وبين واشنطن قد تسقط في هاوية المواجهة


باريس، من جهتها، لا تزال تحاذر السير على خطى واشنطن. ويوم أمس، حذّر وزير الخارجية الصيني، في اتصال أجراه بنظيره الفرنسي، جان إيف لودريان، مِن أن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين «قد تسقط في هاوية المواجهة»، داعياً المجتمع الدولي إلى مقاومة «أيّ خطوة أحادية أو محاولة للهيمنة». واعتبر أن «استفزاز الولايات المتحدة المتهوّر، الذي من شأنه التسبّب في مواجهة وانقسام، يعدّ انفصالاً تاماً عن الواقع الذي يشير إلى أن مصالح البلدين متكاملة إلى حد بعيد»، مضيفاً أن على الطرفين «التواصل في شكل عقلاني... وعدم السماح إطلاقاً لبعض العناصر المناهضين للصين بإلغاء عقود من التواصل والتعاون الناجح».
«العلاقات الاستراتيجية» الأوروبية مع الصين هي قضيّة تخصّ الاتحاد الأوروبي، وفق ما تؤكّد ميركل. لكن وزراء خارجية دول الاتحاد لم يتمكّنوا من الاتفاق على موقف مشترك في شأن بكين، ليخلص مفوض الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل، إلى أن بعض الإجراءات الصينية «تغيّر قواعد اللعبة»، وأن ذلك «سيتطلّب مراجعة نهجنا، وسيكون (للتطورات) تأثير واضح على علاقاتنا».



... الردّ من هونغ كونغ
قرّرت الصين تعليق العمل باتفاقات تبادل المطلوبين بين هونغ كونغ وكلّ مِن كندا وأوستراليا والمملكة المتحدة. ويُعدّ الإجراء الصيني رمزياً، لكون الدول المذكورة سبق أن علّقت، أحادياً، هذه المعاهدات، احتجاجاً على «قانون الأمن القومي» المطبّق منذ 30 حزيران/ يونيو في المستعمرة البريطانية السابقة.
وعلى خطى شريكاتها في تحالف «خمسة أعين» الاستخباري، كندا وأوستراليا والمملكة المتحدة، علّقت نيوزيلندا اتفاقها لتسليم المطلوبين مع هونغ كونغ على خلفية القانون الذي «قوّض مبادئ دولة القانون» و»شكّل انتهاكاً لالتزامات الصين أمام المجتمع الدولي»، بحسب وزير خارجيتها، وينستون بيترز، الذي أضاف أن هذا التعليق مبرّر، لكون «نيوزيلندا لا يمكن أن تثق بعد اليوم باستقلالية النظام القضائي في هونغ كونغ عن الصين». وقال إن بلاده ستعزّز القيود المتعلقة بتصدير المعدّات العسكرية إلى المدينة، محذّراً مواطنيه من السفر إليها.
(الأخبار، أ ف ب)