ولّد إعلان التشكيلة الحكومية الجديدة في فرنسا، والتي ضمّت 8 وزراء جدد؛ بينهم شخصيات مثيرة للجدل، تساؤلات كثيرة حول خلفيات هذا التطوّر. فالحكومة التي عَيّنها رئيس الوزراء الحالي جان كاستيكس، الذي حلّ محلّ إدوار فيليب، استبدل فيها، وفي مواقع حسّاسة، أنصاراً سابقين لنيكولا ساركوزي بأقرب معاوني الرئيس إيمانويل ماكرون. ومن الواضح أن كاستيكس وافق على الأسماء التي اقترحها عليه صديقه ساركوزي في 8 حزيران/ يونيو الماضي، لتتأكّد صحة التكهّنات بأن الحكومة الجديدة ستكون أكثر يمينية. وعلى الرغم من النتائج الجيّدة التي حققها «حزب الخضر» خلال الجولة الثانية من الانتخابات البلدية، إلا أن ماكرون لا يبدو أنه يخشى اليسار المنقسم بقدر ما يتوجّس بديلاً يمينياً يزيحه من صدارته كمنافس للشعبوية التي تُمثلها مارين لوبن. وبحسب أوليفييه روكان، الخبير السياسي والدستوري والباحث في مركز الدراسات والأبحاث في العلوم السياسية والإدارية، فإن «هذا التعديل الحكومي يمثل تأكيداً على استمرارية الاستراتيجية التي اعتمدها ماكرون منذ 2018، والهادفة إلى استقطاب جمهور يمين الوسط ومن ثم اليمين. لقد هيّأ إدوار فيليب الأرضية لذلك، كما شهدنا تحالفات بين حزب ماكرون واليمين خلال الانتخابات البلدية الأخيرة. التعديل الحكومي يأتي إتماماً لهذا السياق». لكن خيار انزياح سياسات ماكرون نحو اليمين يحمل معه مخاطر تأجيج الصراعات الاجتماعية والسياسية داخلياً.لم يتأخّر رئيس الوزراء، الذي كان أيضاً أميناً عاماً مساعداً للإليزيه خلال رئاسة ساركوزي، عن إعلان تصميمه على إتمام عملية إصلاح نظام التقاعد، والتي كانت موضوع الخلاف الرئيس بين فيليب وماكرون، وكذلك في صفوف الأغلبية الرئاسية. يسعى كاستيكس إلى الاستفادة من الأزمة الاقتصادية في فرنسا لتسريع تطبيق أجندة الإصلاح البنيوي التي تعارضها غالبية النقابات وجرى تجميدها خلال الأزمة الصحية. يرى أوليفييه روكان أن «الإصرار على إصلاح نظام التقاعد قد يؤدي إلى توترات اجتماعية، نظراً إلى المعارضة التي واجهها قبل جائحة كورونا، وإلى التركيز المحوري على قضية الفوارق الاجتماعية المتعاظمة في النقاش العام. عناد ماكرون في هذه المسألة، تماشياً مع رغبات اليمين، سيتسبّب باضطرابات اجتماعية وتظاهرات واسعة النطاق، وسيترتب على كلّ ذلك ثمن انتخابي بالنسبة إلى الرئيس».
عناد ماكرون في مسألة إصلاح نظام التقاعد سيتسبّب باضطرابات اجتماعية


من جهة أخرى، أثار تعيين جيرالد دارمانان وزيراً للداخلية انقسامات حتى داخل حزب ماكرون، بقدر ما عكس إرادة رئاسية مستجدة على عدم إغفال الأبعاد الثقافية والرمزية، بعدما جرى التغاضي عنها سابقاً في النقاش العام. فهذا المسؤول السياسي، الذي عمل منسّقاً للحملة الانتخابية التمهيدية لنيكولا ساركوزي عام 2016، والذي يحرص على التذكير بتحدّره من أصل جزائري وبقتال جَدّه في صفوف الجيش الفرنسي، اعتبر، في كلمة يوم الأربعاء الماضي أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، أن «الإسلام السياسي عدوّ قاتل للجمهورية»، داعياً إلى «مواجهة أيّ شكل من أشكال الانطواء الديني». وكان دارمانان قد اقترح، في وثيقة وَجّهها إلى زعماء اليمين الفرنسي سنة 2016 بعنوان: «نداء من أجل إسلام فرنسي»، استلهام سياسة نابوليون تجاه اليهود «لفرض تسوية على الإسلام يقبل وفقها بمجموعة من القواعد التي تتيح دمجه بشكل كامل في إطار الجمهورية». وعلى رغم إدانته الأطروحات الهويّاتية العنصرية التي يروّجها فرنسوا فيون مثلاً، أحد رموز اليمين، فإن هاجس دارمانان المتمثل في «ضبط» الإسلام ليصبح منسجماً مع قيم الجمهورية، هو بذاته تعبير عما تسمّيه حركة مناهضة العنصرية «الإسلاموفوبيا المؤسّسية» في فرنسا. أوليفييه روكان، من جهته، مقتنع بأن هذا الميل إلى إبراز الأبعاد الرمزية المتصلة بالعلمانية، كأولوية في الحوار السياسي العام، ناجم عن عجز الدولة والمستوى السياسي عن حلّ القضايا الاقتصادية - الاجتماعية؛ إذ «يتمّ الجنوح نحو الإشكاليات الثقافية والرمزية نتيجة للعجز عن تلبية المتطلّبات الأساسية للفرنسيين». يضيف روكان إنه «قد تكون هناك مشكلات تتطلّب حلاً على مستوى كيفية الحفاظ على التوازن بين المطالب الدينية والاندماج الاجتماعي، لكن مقاربتها تتمّ بطريقة تبسيطية وعدائية، وبالتالي غير مجدية، وتُشكل مصدراً جديداً للتوترات».
اختيار المحامي الجنائي دوبون موريتي، وهو نجم إعلامي معروف بميوله اليسارية، وزيراً العدل، بعدما سبق أن أعلن بنفسه للتلفزيون الفرنسي سنة 2018 عدم امتلاكه الأهلية ليحتلّ مثل هذا المنصب، يطرح بدوره أسئلة عن مغزى تسمية شخصيات استقطابية لمواقع حكومية حسّاسة. فالرجل الذي اشتُهر لمعارضته حركة «أنا أيضاً» النسوية البيضاء، ولمواقفه الحادّة ضدّ القضاء، يتعرّض اليوم لنقد حادّ، وكذلك قرار توزيره، من قِبَل نقابة القضاة. برأي روكان، هذه الخيارات هي ردّ من ماكرون على الانتقادات التي وُجّهت إلى فريقه السابق، وتركّزت حول خلوّه من شخصيات سياسية بارزة ومسموعة الرأي في النقاش العام.
أخيراً، وبمعزل عن جهوده لاستقطاب جمهور اليمين أيديولوجياً، يُحكِم ماكرون سيطرته على أبرز المناصب الوزارية التي يتبوّأها أعضاء في حزبه. وبات جلياً أن هامش استقلالية رئيس الوزراء يضيق باستمرار، وأن وظيفة الوزراء تتّجه تدريجياً لأن تقتصر على الدعاية والترويج لسياسات الرئيس.