لا حسابات تبرّر رفع سعر ربطة الخبز البيضاء، حتى لو قدم «كارتيل» الأفران لوزير الاقتصاد راوول نعمة ألف مستند ومستند. كان مفترضاً أن يكون رغيف الفقير الخط الأحمر الوحيد الممنوع المسّ به، حتى لنعمة الآتي من خلفية لا تعرف، ربما، قيمة هذا الرغيف لدى الفقراء. إلا أن الوزير، أمس، رضخ مرة أخرى لأصحاب الثروات على حساب الطبقة المعدومة التي راهنت على بقاء سعر الخبز على حاله حتى لو تجاوز الدولار العشرة آلاف ليرة. المرة الأولى كانت عندما وافق على المس بوزن الربطة وسحب رغيفاً منها، والمرة الثانية عندما رفع سعرها أمس 25% ليصبح 2000 ليرة بدلاً من 1500 ليرة رغم الوزن الذي خسرته الربطة. لا يتعلق الأمر، هنا، بارتفاع سعر الدولار بقدر ما هو مرتبط بجشع التجار المتعطشين باستمرار الى رفع السعر وتخفيف الوزن، وحجتهم الدائمة في ذلك هي الخسارة. المفارقة أن وزير الاقتصاد استسلم للكارتيل أمس وفتح له الباب واسعاً أمام مزيد من التمادي في التلاعب بسعر ربطة الخبز ووزنها، في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع، رغم أن أصحاب الأفران والمخابز يستفيدون من دعم مصرف لبنان للطحين والمازوت بنسبة 85%؛ وفي غياب أي رقابة على وجهة استعمالهم لهذا الطحين، يستغل هؤلاء الدعم لاستخدامه في صناعة أنواع متعددة من الخبز والكعك والكرواسان والحلويات وغيره، ما يؤمن لهم أرباحاً صافية بنسبة 100 بالمئة أو أكثر.
يستفيد التجار من دعم مصرف لبنان للطحين ويستخدمونه في صناعات أخرى

حجة الوزير في ذلك كله: «إما أن لا يكون هناك خبز، أو نؤمنه مع زيادة قليلة بالسعر». هنا أيضاً: إما أن الوزير لا يعرف أو أن فريقه لم يبلغه بأن الخبز لم ينقطع في الأيام الماضية، بل عمد التجار الى عدم توزيعه وحصر بيعه داخل صالات الأفران. بمعنى أن الأزمة لم تكن موجودة أصلاً، بل مفتعلة للضغط عليه ونشر الهلع بين الناس. وفعلياً، نجح هذا الضغط في جرّه الى القبول بشروط أصحاب الأفران وإضافة 500 ليرة على الربطة، وهو أكثر مما كان يحلم به هؤلاء بكثير. إذ إن نقيب الأفران علي إبراهيم أكد لـ«الأخبار»، قبل يومين، أن كلفة ربطة الخبز على الفرن تبلغ 1250 ليرة، ما يعني أن هامش الربح كان بمعدل 250 ليرة للربطة الواحدة، إذا ما افترضنا أن هذه هي الحقيقة كاملة. مطالب إبراهيم، ومن يمثلهم، لم تكن ترقى الى ما أعلنه الوزير، بل اقتصرت على زيادة كلفة التوزيع الى المحال والدكاكين بمعدل 200 ليرة، فيما وعد نعمة بأنه سيعمد الى تأمين المازوت مباشرة من وزارة الطاقة الى التجار لحلّ هذه المشكلة. لكن، ما كادت تمر 24 ساعة، حتى بات نعمة يتكلم بلسان التجار ويبرر لهم الزيادة بالقول إن «الأفران ستخسر أموالاً كثيرة إذا أغلقت أبوابها، وهذا ما يحدث منذ وقت»، موضحاً أن «ربطة الخبز كانت بدولار منذ 9 أشهر، واليوم الدولار بـ 8500 ليرة، وهذا يعني أننا يجب أن نرى واقع الأفران». ويبدو أن نعمة، القادم من خلفية مصرفية تتعامل بالدولار، فاته أن عدّاد الفقير والعامل بشكل عام لا يحتسب الزيادة بحسب سعر الصرف، ولم يكن ليعترض أساساً لو كان يمتلك دولاراً واحداً في جيبه. فيما غيّر نقيب الأفران في كلامه وباتت الربطة التي سيبيعها بسعر 1650 ليرة تسبب له خسارة 350 ليرة لبنانية بعدما كانت تكلفه «على الورقة والقلم» 1250 ليرة كما قال بنفسه! وليكتمل المشهد، أبقى النقيب السعر مفتوحاً على مزيد من التلاعب، مشيراً الى أن «سعر الـ 2000 ليرة لبنانية تم اتخاذه وفقاً لوصول سعر صرف الدولار إلى 8000 ليرة، ولكن اليوم ارتفع سعر الصرف إلى 8500 ليرة و9000»، ما «يبشر» بطلب زيادة إضافية على الزيادات المتعاقبة.
من جهة أخرى، أدان وزير الاقتصاد نفسه بنفسه. إذ علق على طرح وزير الصناعة عماد حب الله بدعم الصيانة بالتساؤل: «كيف يمكننا معرفة إذا تم تغيير قطع الغيار، أو أن أكياس النايلون تم استخدامها للخبز؟». وفي هذه الحالة تحديداً، ما الذي يضمن لنعمة استعمال الطحين والمازوت المدعومين للغاية التي يُدعمان لأجلها؟ علماً بأن أحداً من جمعية المستهلك لا يراقب وزن الربطة الذي لا يتوافق والرقم المدوّن على كيس النايلون في معظم الأحيان. وما الذي يضمن إذا ما تأمن استيراد النايلون والسكر والخميرة للتجار بسعر صرف يوازي 3200 ليرة أن تكون وجهة استعمال هذه السلع المدعومة من أموال الشعب في مكانها، وألا يعمد «الكارتيل» إياه الى الضغط مجدداً لنيل مزيد من التنازلات دائماً بحجة «الخسارة».
أمس، مثّل وزير الاقتصاد التجار لا المستهلك، وآثر اتخاذ قرار رفع السعر خلال جلسة الحكومة لا منفرداً حتى ينال غطاء أوسع، رغم أن ثمة من تحدث عن طلب رئيس الحكومة حسان دياب منه التراجع عن هذا القرار.