كتب رئيس الحكومة اللبنانية حسان دياب مقالاً في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، يوم 20 أيار الفائت، لا يخرج عن إطار سياسة «التسوّل الغذائي»، داعياً الغرب إلى إنشاء صندوق لوقف خطر الجوع الذي يهدّد اللبنانيين، وشعوب جنوب الكرة الأرضية بشكلٍ عام. وهذا قطعٌ للشكّ، بأن رئيس حكومة ما بعد 17 تشرين، جاء ليكمّل عقليّة الاتكالية التي ينتهجها البلد منذ تأسيسه، لا لينقضها. وعمليّاً، عوضاً عن فتح الأفق أمام الخلق والإبداع في بلد لديه من الإمكانات البشرية والطبيعية ما يمكّنه من تخفيف خطر الجوع إلى حدوده الدنيا، اختار رئيس الحكومة «أهون» الحلول، عبر اجترار سياسات الماضي والارتهان للقرار الغربي، السياسي والاقتصادي، من بوابة الغذاء هذه المرّة.شَرَّحَ دياب الأزمة الغذائية كمن أعدّ خطاباً موجّهاً لنخبة محدّدة في أوروبا وأميركا. وتلك النخبة، المقرّرة، يفترض الرئيس أنّ إنسانيتها تجعلها تأبه للجائعين فتسارع إلى نجدتهم وإنشاء الصناديق الغذائية لدعمهم. كما أنه راهن في رسالته المبطّنة على استثارة خشية هذه النخبة، افتراضاً، من أمواج لاجئين جائعين، يقتحمون العراء في مراكب البحر المتوسط الهشّة وعبر هضبة الأناضول، نحو البلاد الباردة. واستند في مقاله إلى تقارير من «هيومن رايتس ووتش» والبنك الدولي، ليعلن أن نصف اللبنانيين لن يتمكّنوا من شراء غذائهم مع نهاية العام. وهي خلاصة منطقيّة إلى حدٍّ ما، تبعاً لعجز/ رفض السلطات اللبنانية، من سياسيين وحكومة ومنظومات دينية، عن إيجاد حلول بديلة لسياسات التسوّل، التي باتت اليوم تستجدي القمح واللحم والحليب بدل الدولارات.

فقدان السيادة الغذائية
في التشخيص، اختصر دياب أزمة الغذاء، بأسباب ثلاثة: الفساد وسوء الإدارة في العقود الأخيرة، وانعدام القدرة الشرائية لليرة وارتفاع مستوى البطالة في الأشهر الماضية، والإغلاق العام الذي أصاب العالم مع جائحة كورونا وأثر ذلك على توريد سلاسل الغذاء العالمية واستيرادها. وتلك عوامل مؤثّرة ودافعة إلى أزمة غذاء خطيرة مقبلة، لكنّها ليست الأسباب الرئيسة المسؤولة. لأن ما يعانيه لبنان اليوم وسيعانيه غداً، هو نتاج طبيعي لتوجّه اقتصادي/ سياسي، اعتُمد منذ إنشاء الكيان، وفُرِضَ واقعاً منتصف القرن الماضي، مع إعلان لبنان منتجع خدماتي استهلاكي، للمقيمين والزوار.
وإذا تمّ صرف النظر عن الضغوط السياسية التي أدّت إلى فصل لبنان عن سوريا اقتصادياً وزراعياً، ثم مرحلة الحرب وما سبّبته من انهيار لمنظومة الأمن الغذائي الأوليّة للبنانيين، فإن تثبيت سعر صرف الدولار خلال العقود الماضية وإغداق الفوائد المرتفعة على الإيداعات المصرفية، فكّك ما تبقى من القطاعات المنتجة في البلد، فاتّجه اللبنانيون إلى تخزين ودائعهم في المصارف بدل استثمارها. وهذه السياسة، خصوصاً من حكومات «إعادة الإعمار» التي نالت مباركة مجالس النواب المتعاقبة، لم تؤدِّ إلى انعدام الاستثمار في القطعات المنتجة فحسب، بل ثبّتت عقلية الاستهلاك و«الفلس السهل» في وجدان اللبنانيين، واستذوق كثير منهم لعب دور الوساطة التي تدرّ مالاً سريعاً من دون جهد، على أعمال الزراعة والصناعة. أما من صمد في القطاع الزراعي (النباتي والحيواني)، بتحوّل نحو سياسة الربح السريع أيضاً، معتمداً على الزراعة الكثيفة، مع ما تعنيه من استهلاك للأسمدة والأدوية المستوردة، ما يرفع أسعار السلع ونسب السمية والتلوّث فيها.

(هيثم الموسوي)

ليس هذا فحسب، أدّى التسيّب الممنهج في القطاع العقاري والمخططات التوجيهية التي لا تراعي مبدأ التكامل البيئي والزراعي، وتدمير أحواض الأنهار والمساحات الزراعية لحساب المشاريع السكانية الفارغة من السكّان والبناء العشوائي، إلى انعدام أي أمان غذائي على المستوى الوطني (طبعاً من الصعب استخدام مصطلح السيادة الغذائية في الحالة اللبنانية).
أمّا أخطر ما تكرّس في العقود الماضية، وأُعيد تزكيته قبل يومين، من قبل خطّة دعم السلة الغذائية التي تقدّمت بها وزارة الاقتصاد، فهو تسليم مفاصل السلع الأساسية الغذائية في البلاد إلى الكارتيلات الضخمة الجشعة. وتلك نالت بالأمس دعماً من الدولة، لتستورد السلع الغذائية الجاهزة والمواد الأوليّة اللازمة في الزراعة والصناعة الغذائية من الخارج، فتعيد طرحها في الأسواق وتكسب أرباحاً مضاعفة، من دون أن تفيد صغار المزارعين وأصحاب الحرف والمشاريع الصغيرة، بما يقضي على أي قدرة فردية وجماعية على الانتاج، لأصحاب الموارد المحدودة، وكذلك تكبيد المواطنين أعباء ارتفاع الاسعار التي يفرضها الاحتكار.

الحلول جذرية لأزمة وجودية
في الأشهر الماضية، قدّم العديد من خبراء الزراعة والتنمية المستدامة، أفكاراً لحلول تؤمّن أمناً غذائيّاً مرحلياً، وتشكّل معبراً إلى خطة مستدامة متكاملة لبناء السيادة الغذائية (راجع «الأخبار» الخميس 16 نيسان 2020: لبنان والسيادة الغذائية: القمح والفاصولياء أبقى من اللحم والدولار). في المقابل، جاءت خطة وزارة الزراعة (راجع الأخبار الثلاثاء 21 نيسان 2020، خطة الطوارئ الزراعية: الأمن الغذائي لسنة واحدة!)، وخطة وزارة الاقتصاد، بعيدةً كل البعد عن التجديد والبحث عن الحلول من خارج الأفكار المعلّبة القديمة، (راجع الأخبار: اقتراحات لتطوير خطّة الطوارئ: «الزراعة بنت بيئتها»).
يصف أكثر من خبير الأزمة الغذائية اللبنانية بـ«الوجودية»، ما يدفعهم إلى الاستنتاج بأن «الحلول يجب أن تكون جذرية». في اتصال مع «الأخبار»، يدعو أحد أبرز خبراء التنمية الزراعية في لبنان إلى «إصدار قرار فوري بتقييد استخدام المبيدات الكيميائية والأسمدة الكيميائية تمهيداً لوقف استخدامها بشكل نهائي في خطة قصيرة المدى، وإعطاء مهلة محددة أمام المزارعين، لاستبدال طرق وآليات زراعاتهم». وهذا الأمر «يحصل بالتوازي مع حملات توعية على الزراعة العضوية وتعليم الفلاحين على أساليب إنتاج أسمدتهم الخاصة على مستوى الأفراد والبلديات والتجمعات البلدية. أما على المستوى المركزي، فالعمل على إنشاء معامل لتحويل النفايات العضوية إلى أسمدة طبيعية لتأمين البديل من السماد الزراعي المستورد وبأسعار زهيدة مقارنة مع كلفة الاستيراد.
أمّا الخبير مهنّد دباغ، فيؤكّد أن على الدولة أن «تقوم بشراء المواد الأولية اللازمة للمزارعين، وليس الكارتيلات، وتقديمها لهم مقابل حصص عادلة من الإنتاج لاحقاً، من ضمن سياسة الدعم الزراعي، بدل دعم الكاريتلات بفرق سعر صرف الدولار، ثم قيام هؤلاء ببيعها للمزارعين بأسعار خالية وعلى أساس سعر الصرف الحالي في السوق». ويقترح دباغ حلولاً لـ«تنظيم أسواق الحسبة في المناطق وفي بيروت، وخلق أطر توزيع بين المواطنين والمحال الصغيرة وبين المزارعين، عبر أسواق العرض في المحافظات والأقضية والتعاونيات والجمعيات الزراعية (تحتاج قوانينها إلى تحديث وتحديد مهام)». ومن الأمور المهمّة، التي يدعو إليها كل الخبراء، ومنهم دباغ، فهي «تفكيك منظومة الاستغلال في قطاع المواشي وإنتاج الحليب ومشتقاته، لتخفيف استيراد الأعلاف من الخارج، ووقف نزيف الدولارات، بالتوازي مع إيجاد آليات توزيع من المربّين إلى المستهلكين من خارج الدورة الحالية القائمة، التي تحقق الربح على حساب الدولة والمربّين والمستهلكين».
تسليم مفاصل السلع الأساسية الغذائية في البلاد إلى الكارتيلات الضخمة الجشعة


ومّما لا شكّ فيه، أن أزمة تعويض البروتينات اللازمة لتأمين غذاء اللبنانيين (حوالى 50% فقط ينتج محلياً)، تحتّم على الدولة زراعة المساحات الحالية الموجودة بالحبوب، ولا سيّما القمح والفاصولياء والبطاطا، والأعلاف التي تغذّي التربة وتؤمن مصدراً لإطعام المواشي، والسعي للحصول على دعم لتعزيز هذا النوع من الزراعات، بينما لا يزال الأمر ممكناً، بدل الاتكال على الدعم المادي الموجّه للاستهلاك وليس للإنتاج.
أما على المستوى الشعبي والاجتماعي، فيركّز الخبراء، ومن بينهم الباحث كريم صبّاغ، على ضرورة تغيير جذري في العادات الغذائية، والتقليل من الاعتماد على اللحوم، واستبدالها بالحبوب.

لبنان جزيرة؟
مسألة أخرى، بدت نافرة في مقالة رئيس الحكومة، وهي التخاطب مع العقل الغربي، والتغاضي التام عن حاجة لبنان إلى التكامل الزراعي والاقتصادي مع محيطه، أي سوريا والعراق والأردن. في العقود الأخيرة، شكّلت التجربة العراقية نموذجاً مهماً في كيفية تعامل الغرب مع أزمات الغذاء، إذ استخدم الجوع أداةً لتحطيم العراق في حرب النفط مقابل الغذاء، إضافة إلى تجارب دارفور والكونغو ورواندا وسيراليون والصومال.
والسؤال الأهم، كيف يطلب رئيس الحكومة من الولايات المتّحدة و«مجموعة العشرين»، أن تفرض على الدول التي أعلنت وقف تصدير الحبوب، مثل روسيا وأوكرانيا، أن تستمر في التوريد؟ هل يتعامل دياب مع أميركا كشرطي عالمي؟ هل حاول دياب التواصل مع روسيا لتأمين كمية كافية من القمح ورَفَض الروس ذلك؟ أم أن «النقّ» على روسيا عند الأميركيين يسرّع في دعم لبنان؟
إن «الشحادة»، ولو كانت سياسة لبنانية ناجحة لعقود، لا تؤمّن حلولاً مستدامة، وتبقي لبنان من الآن فصاعداً عالقاً بين الموت والحياة، في الوقت الذي يمكن فيه، وخلال سنة واحدة، توفير جزء كبير من الحاجة المحليّة عبر تغيير السياسة الغذائية، لو توافرت الإرادة!