لم يكتفِ الأميركيون بالأزمة المالية التي فجّرها تفليس «جمّال ترست بنك» في لبنان، بفعل العقوبات التي فرضوها عليه. بل على العكس من ذلك، يستمرّون في عقوباتهم ويجدّدونها في فترات زمنية متقاربة، آخرها كان أمس على كيانات وشخصيات لبنانية، في إطار حرب الحصار الجديدة المفتوحة على لبنان بعد سوريا وإيران، وعلى العديد من دول العالم.وفيما كان التركيز الأميركي في ما مضى على بيئة حزب الله اللصيقة، في محاولة لتدفيعها ثمن المواجهة وعزل المقاومة عن حاضنتها الشعبية، بدأ التركيز الأميركي أيضاً يتّسع ليشمل كل اللبنانيين من دون استثناء، هذه المرّة من بوابة البنوك الأوروبية.
منذ سنوات، واللبنانيون الذين يملكون أعمالاً تجارية بين أوروبا ولبنان أو في أوروبا، يتعرّضون للتضييق في ما خصّ فتح الحسابات والتحويلات المالية، وانحصر التضييق عادةً على اللبنانيين من أبناء المذهب الشيعي. وفي الأشهر الماضية، مع انفجار الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد، بدأ عدد كبير من اللبنانيين بنقل أعمالهم إلى الخارج والسعي لفتح حسابات مصرفية في أكثر من دولة أوروبية، وأولها قبرص التي تحظى باهتمام اللبنانيين هذه الأيام، بسبب قربها الجغرافي. وخلال هذه المرحلة، برز أكثر من مؤشّر على وجود تدقيق وتضييق على اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم الدينية والسياسية، وصعوبات كبيرة متعلّقة بفتح الحسابات المصرفية، من دون أن يظهر إلى أين يمكن أن تصل إليه عمليات التضييق تلك.
وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن قراراً أميركياً واضحاً وُجِّه إلى عدة دول أوروبية، للأميركيين تأثير كبير عليها، وإلى مصارف مركزية، ببدء التعامل مع الشركات اللبنانية واللبنانيين بطريقة مشابهة لتلك التي بدأ التعامل بها مع السوريين والشركات السورية في 2011. وعلى ما تقول مصادر مصرفية مطّلعة على التطوّرات، فإن قراراً صدر عن المصرف المركزي القبرصي بالتضييق على الشركات اللبنانية التي تريد فتح حسابات في الجزيرة على اعتبار أن هذه الشركات تقع ضمن خانة «المخاطر المرتفعة»، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحسابات القديمة والحسابات التي تتعامل بين لبنان وقبرص، بوضع سقفٍ لهذا التعامل. وذكر رجال أعمال لبنانيون ناشطون في قبرص منذ سنوات أنهم واجهوا مصاعب في فتح حسابات مصرفية جديدة لهم. كذلك تحدّثت معلومات عن صعوبات واجهها لبنانيون في دول أوروبية عديدة، كفرنسا وسويسرا وبلجيكا، سواء بالنسبة للحسابات الشخصية او تلك الخاصة بشركاتهم. وتقول المصادر إن «هذه الإجراءات تعني تصنيف لبنان واللبنانيين في الخانة ذاتها التي صنف فيها السوريون والإيرانيون قبلهم»، معتبرةً أن «واشنطن تحضّر لبنان لمستوى أعلى من العقوبات». وأكّد أحد المستثمرين اللبنانيين في أكثر من دولة أوروبية في قطاع السّياحة، أن «من الصعب جدّاً الآن على أيّ لبناني فتح حساب مصرفي في أوروبا، حتى الحسابات القديمة يتمّ تعقّبها»، مضيفاً إن «البنوك الأوروبية تطلب أحياناً من سفارات دولها في بيروت معلومات عن الأشخاص الذين يطلبون فتح الحسابات».
عقوبات وتهديدات
وبرز أمس، بعد إعلان الخزانة الأميركية لائحة عقوبات جديدة على مؤسسات ومواطنين لبنانيين، شمول العقوبات هذه المرة مؤسسات تعنى بالدواء والاستشفاء. إذ لم يتوقّف الأميركيون عند العقوبات القديمة الموضوعة على «مؤسسة الشهيد» القريبة من حزب الله، بل أدرجوا أمس مجموعة «أطلس القابضة» التابعة لها، ثم أدرجوا الشركات التابعة لأطلس، ومن بينها الشركة الدولية للأدوية والمعدات الطبية‏ (ميديك) و«شاهد فارم» و«سيتي فارما ش.م.ل» وشركة «سانوفيرا فارم» بالإضافة إلى شركات ومؤسسات أخرى تعنى بالسياحة والتجارة؛ من بينها شركة الأمانة للمحروقات.
القرار الأميركي بمعاقبة شركات تعمل في قطاع الدواء يُعدّ ارتقاءً في مستوى العقوبات الأميركية على لبنان. إذ إن واشنطن تعمّدت سابقاً عدم فرض عقوبات على مؤسّسات طبيّة واستشفائيّة ودوائيّة وتربويّة، بذرائع «إنسانيّة». ولقرارها أمس بُعدان: الأول سياسي، ويعني توجيه رسالة «عنيفة» تؤشر إلى المدى الذي يهدّد الأميركيون بإمكان الوصول إليه. أما الثاني، فاقتصادي، ومتّصل بمنع الشركات اللبنانية من اللجوء إلى الخيارات البديلة من الخيارات الغربية في التجارة، والتي يمكن أن تخفف من الأعباء الاقتصاديّة عن لبنان. ويكتسي القرار معنى أكثر وضوحاً مع التهديدات التي وجّهها مسؤولان أميركيان إلى السياسيّين اللبنانيّين، بفرض عقوبات عليهم بذريعة «مكافحة الفساد»، على أن تشمل هذه العقوبات شخصيات من خارج حزب الله، ومن «مختلف المذاهب والطوائف والقوى السياسية». ففي المؤتمر الصحافي المشترك بين وزارتَي الخزانة والخارجية الأميركيّتين، الذي عقد في واشنطن، أمس، بحضور مساعد وزير الخزانة الأميركي مارشال بلينغسلي ومساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، أعلن عن العقوبات، بمنسوب مرتفع من التهديد. بلينغسلي، المعروف بـ«سفّاح المصارف» في لبنان منذ تفليس «جمّال ترست بنك»، زعم أن «العقوبات لن يكون لها أثر على حصول اللبنانيّين على الإمدادات الطبيّة والأدوية، ولكن سيكون لها أثر على تراجع قدرة حزب الله على تهريب أدوية من أماكن مثل إيران وخرق القوانين اللبنانيّة عبر توزيع أدوية قد تكون ضارّة». واتّهم حزب الله بأنه «يحاول السيطرة على الاقتصاد اللبناني بالطريقة نفسها التي حاول فيها السيطرة على السياسة في لبنان».
شينكر يلوّح بالعقوبات على سياسيّين من خارج حزب الله، «من مختلف المذاهب والطوائف والأحزاب السياسية»

وتوقّع أن «ينخرط مصرف لبنان بطريقة أكثر فعاليةً لضبط النظام المصرفي اللبناني ضد حزب الله»، مؤكّداً أن «واشنطن تعتمد على مصرف لبنان وأدواته التنفيذية لضمان أن كل الأصول المرتبطة بشركة الأمانة والشركات الأخرى المصنّفة قد جمّدت بشكل دائم». وفي تهديد واضح للمسؤولين اللبنانيين تحت عنوان «مكافحة الفساد»، أكّد بيلنغسلي أنّ «الولايات المتحدة تعتزم محاسبة المسؤولين السياسيين إذا استمر الوضع على ما هو عليه، وعلى الحكومة اللبنانيّة أن تتحرّك بسرعة لمعالجة مخاوف المجتمع الدولي من الفساد المستمر في لبنان».
أما شينكر، الذي كان من المفترض أن يزور لبنان قبل أشهر لمتابعة ملف الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، فتابع هجوم زميله، زاعماً أن «حزب الله يستغلّ النظام المصرفي في لبنان وسنحاسبهم على ذلك. حزب الله منظّمة تزدهر وتستمرّ استناداً إلى الفساد، إنها منظمة إرهابية مندرجة وسنتخذ الإجراءات اللازمة لضمان عدم تمكّنها من جمع الأموال وتشغيل المؤسسات بشكل حرّ على الأراضي اللبنانيّة أو في أيّ مكان آخر في العالم». وقال شينكر إن «الفساد ومقاومة الإصلاح ليسا فقط من اختصاص حزب الله، بل هناك مجموعات أخرى بين مختلف المذاهب والطوائف والأحزاب السياسية التي تعارض الإصلاح وانخرطت في أعمال الفساد»، مضيفاً إن «أسباباً عدّة أدّت إلى الوضع المالي الحالي، و«كلّها نتيجة قرارات لبنانية اتّخذها سياسيّون لبنانيّون والقطاع المصرفي».
من جهتها، أكّدت السفيرة الأميركية السابقة في بيروت، إليزابيت ريتشارد، في زيارة وداعية لقصر بعبدا، بعد لقاء الرئيس ميشال عون، أن «لبنان يقف أمام نقطة تحوّل».