الخرطوم | توازياً مع تعثر واضح على المستويين السياسي والاقتصادي، ينضمّ البعد الأمني إلى المشهد المضطرب في السودان، في ظلّ اندلاع صراع بيني داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية، سرعان ما أُعطي طابعاً سياسياً مع حديث الوجه العسكري الأبرز في البلاد، «حميدتي»، عن أيادٍ خارجية تقف خلف تمرّد قوى تابعة لجهاز المخابرات العامة. حديثٌ لا يبدو عابراً بالنظر إلى موقع الرجل وارتباطاته الإقليمية، والتي تجلّت آخر مظاهرها في زيارة سرية قام بها إلى أبو ظبي، سرعان ما بادر أنور قرقاش إلى ردّها. هذه الزيارات المتبادلة، والتي يَسِمها مراقبون بالغموض، تظهر متصلة بمحاولة الإمارات كسب حصة وازنة لها في البلد الخارج من مخاض حراك شعبي أطاح الرئيس عمر البشير، ولاسيما في ميناء بورتسودان الذي تتطلّع أبو ظبي إلى ضمّه لقائمة الموانئ التي تسيطر عليها في أفريقيا.لم تكد تمرّ ثلاثة أيام على زيارة سرية أجراها نائب رئيس «المجلس السيادي» السوداني، الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف بـ«حميدتي»، إلى أبو ظبي، حيث مكث لأيام، حتى وصل وزير الدولة للشؤون الخارجية في الإمارات، أنور قرقاش، إلى السودان، الأحد الماضي. زيارة دقلو لم يعلن المجلس أسبابها أو أهدافها، كما لم يَصدر توضيح من جهة رسمية في شأنها، وما إذا كانت جرت بوصف القائم بها نائباً لرئيس «السيادي» أو قائداً لقوات «الدعم السريع». لكن مصادر مطلعة ترجّح، في حديث إلى «الأخبار»، الصفة الثانية؛ «بحكم التعاون العسكري بين حميدتي والإمارات منذ شاركت قواته في حرب اليمن»، ولا تستبعد في الوقت نفسه أن تكون التطورات في ليبيا سبباً للزيارة، خاصة أن «الدعم السريع» تلعب دوراً مسانداً لقوات المشير خليفة حفتر، وفق ما أكده تقرير للأمم المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قال إن دقلو أرسل جنوداً إلى حفتر عبر سفينة حربية برعاية إماراتية.
أما زيارة قرقاش، فقد أفاد الإعلام المحلي السوداني بأنها بحثت الأزمة الليبية من بين ملفات عدّة، فيما قال وكيل الخارجية السوداني، صديق عزيز، إن المباحثات «تطرّقت إلى قضية الإرهاب». لكن مصادر «الأخبار» كشفت أن أساس زيارة الوزير الإماراتي مختلف تماماً، إذ أن الهدف، بحسبها، «عقد صفقة بين الحكومة السودانية والإمارات، يباع بموجبها ميناء بورتسودان لأبو ظبي التي سبق أن سعت إلى تحقيق ذلك قبل أكثر من عشر سنوات في عهد الرئيس المعزول عمر البشير». وكانت وسائل إعلام أوردت، عقب عودة حميدتي من الإمارات الجمعة الماضي، أنباء عن «جهود إماراتية عبر ضابط إسرائيلي سابق للضغط على الأميركيين من أجل دعم خطة شركة موانئ دبي للاستحواذ على ميناء بورتسودان»، لافتة إلى أن الهدف من هذه الخطة التوسّع في قطاع النفط والغاز وزيادة النفوذ الإماراتي في المنطقة.
شهدت العاصمة الخرطوم إطلاق نار كثيفاً من قِبَل قوى تابعة لجهاز المخابرات العامة


إزاء ذلك، حذّر حزب «المؤتمر الشعبي» المعارض من «رهن واحتكار موانئ السودان لدولة خليجية عبر مفاوضات سرية لحلّ الأزمة الاقتصادية». وشدّد الدبلوماسي السابق والقيادي في الحزب، إدريس سليمان، على ضرورة إقامة «علاقات مثمرة مع الدول بعيداً عن الانتهازية التي تتعارض مع مصالح البلد». واستغرب سليمان، في حديث إلى «الأخبار»، الغموض الذي يَسِم الزيارات المتبادلة لمسؤولي البلدين، لافتاً إلى أن «لا أحد يعرف غرضها وهي تجري بتكتم وسرية... على المسؤولين انتهاج مبدأ الشفافية، فأيّ زيارة لا تصدر عنها أخبار وفق الأعراف الدبلوماسية لن تكون في مصلحة البلد، لأنها تشير إلى ملفات أمنية». في المقابل، قلّل الكاتب المتابع لشؤون شرق السودان والموانئ، عبد القادر باكاش، من رغبة الإمارات في تملّك ميناء بورتسودان، لأنه «لا توجد محفّزات مغرية للاستثمارات الأجنبية في البلاد، بسبب غياب الاستقرار بصورة عامة وفي بورتسودان خاصة»، مُذكِّراً بـ«أنه في عام 2008 أبدت أبو ظبي رغبتها في الاستثمار في الميناء، وكرّرت الطلب في عام 2017... لكن كانت الظروف أفضل». مع هذا، تعرّض النفوذ الإماراتي في حوض البحر الأحمر (جيبوتي والصومال ومواقع أخرى) لخسارة عدد من المواقع، وهو ما قد يفسر تجدّد رغبة أبو ظبي في تملّك بورتسودان، خاصة أن الصراع الدولي والإقليمي على الميناء المذكور مستمر، ومنه عرض قطر تشغيله. كما أثار وجود تركيا في جزيرة سواكن، بعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الخرطوم في خواتيم 2017، غضب مسؤولين إماراتيين. وبعد عزل البشير، يبدو أن الإمارات تريد إعادة التموضع في السودان عبر علاقتها بحميدتي والعسكر، ومن غير المستبعد أن تساوم في موضوع الميناء بتقديم المساعدات للسودان وتحسين اقتصاده. والجدير ذكره، هنا أيضاً، أن الإمارات تتدخّل في مسار مفاوضات السلام الجارية مع الحركات المتمردة، وتحاول توجيهه وفقاً لرؤيتها. وفي السياق المتقدّم جاءت - على ما يبدو - زيارة الأمين العام لـ«الحركة الشعبية - شمال»، عبد العزيز الحلو، إلى الإمارات بداية الشهر الجاري.
من جانب آخر، وتزامناً مع زيارة قرقاش، شهدت العاصمة الخرطوم إطلاق نار كثيفاً من قِبَل قوى تابعة لجهاز المخابرات العامة، ما أدى إلى إغلاق بعض الطرق. ووصف المتحدث باسم القوات المسلحة، العميد الركن عامر محمد الحسن، ما قامت به تلك القوى بأنه «سلوك مشين» احتجاجاً على ضعف استحقاقاتها المالية، مشدداً على أن «هذه الفوضى تتطلّب الحسم الفوري». وأشار في هذا الإطار إلى تحرك اللجنة الأمنية في ولاية الخرطوم، مؤكداً أن «كلّ الخيارات مفتوحة للسيطرة على تلك التفلّتات». كذلك، أعلن الجيش رفع حالة الاستعداد إلى القصوى، وسط أنباء عن إغلاق المجال الجوي، وانتشار مدرّعات في شارع المطار، مع توجّه قوات «الدعم السريع» إلى موقع الأحداث. وفي تفاصيل الحادثة، أفادت مصادر في الجيش بأن جنوداً من «هيئة العمليات في المخابرات» أطلقوا النار بكثافة في الهواء «احتجاجاً على عدم تسلّم عدد منهم حقوق نهاية الخدمة كاملة»، من دون أن تربط ذلك بزيارة المسؤول الإماراتي، فيما نقلت وكالة «الأناضول» التركية عن مصدر عسكري أن «الجنود تمّ تخييرهم في وقت سابق بين الانضمام إلى هيئة الاستخبارات في الجيش أو الدعم السريع، أو الإحالة على التقاعد... الغالبية العظمى فضّلت التقاعد ونهاية الخدمة، لكنّ الموجودين في معسكرات الرياض وكافوري وسوبا والعمارات بالخرطوم أطلقوا النار بكثافة، وقالوا إنهم لن يستلموا حقوقهم لأنها ضعيفة، وطالبوا بالمبلغ كاملاً». من جهته، دعا «تجمّع المهنيين» أجهزة الدولة إلى التدخل الفوري لوقف ما سمّاها «العمليات غير المسؤولة»، في حين طالبت «لجان مقاومة ثورة ديسمبر» بهيكلة جميع الأجهزة الأمنية، لأن «منسوبيها يمثلون النظام المعزول».