بمنتهى الحذر، يُمسك الأخوان محمد ومصطفى الحلّاق بأطراف أصابعهما وعاءً زجاجياً كبيراً، ويضعانه بهدوء جانباً، كي لا يلمسه أحد ويُطيحه أرضاً؛ فإذا «كُسر هذا القطرميز، فلن يكون هنالك بديلٌ له، بعد أن رحل آخر مبدعي صناعة القطرميزات الزجاجية اليدوية في سوريا». يبذل محمد (62 عاماً) قُصارى جهده مع أخيه وثلاثة عمال آخرين، من أجل الحفاظ على استمرارية عمل ورشتهم الصغيرة في منطقة باب شرقي، والتي تعتبر واحدة من أواخر ورشات نفخ وصناعة الزجاج اليدوي في سوريا. ويصفُ حال مهنته بالـ«ميتة سريرياً» بعد أن كسبت «الآلة» بداية معركة المنافسة مع صناعة الزجاج يدوياً، وقطعت الحرب تالياً جميع طرق السياحة، فأجهزت على آخر من كانوا يطلبون «الزجاج الدمشقي الأنيق والرقيق» من خلال مجموعات السيّاح العرب والأجانب.أطلقت تسمية «خان الزجاج» على تجمع عدد من الورشات التراثية والتقليدية المتخصصة في الصدف والحفر على الخشب والنحاسيات، إضافة إلى وجود آخر ورشة صناعة زجاج يدوي، بإشراف محمد الحلاق المعروف بأبي نعيم، والذي يقول لـ«الأخبار» متحسّراً: «هذه آخر ورشة، ونحنُ آخرُ العاملين في هذه المهنة، أخذتها من والدي الذي أخذها من أجدادي، ولم أتمكن من نقلها لابني أو لأحد آخر... المهنة ليست مهددة بالانقراض، بل يمكن القول إنها انقرضت فعلاً». ينحدرُ الأخوان حلاق من منطقة الشاغور في دمشق القديمة، وحملت عائلتهم سابقاً كُنية القزاز، وهي كلمة دمشقية عامية تعني الزجاج، إذ توارثت العائلة هذه المهنة منذ ما يزيد على 500 سنة، بينما يبدو أن الزمن متوقف في ورشة أبو نعيم منذ فترة طويلة، فقد خلت غرفته من الآلات التكنولوجية بشكل كامل، واكتفى بتعليق هاتف معدني كبير، يخلو من الأزرار أيضاً، ويعمل على «القرص الدوار»، وبجانبه تقويم «الهاشمي»، ومرآة مكسورة.
تشق ابتسامةٌ وجه أبو نعيم المكفهر قُبالة «بيت النار» حين سمع أحدنا يقول «إن الطقس حار، ووصلت درجة الحرارة للأربعين»؛ ويُسهب في الشرح عن فرن الزجاج ويقول: «لا يُمكن أن يؤدي هذا الفرن وظيفته في صهر الزجاج وتحويله إلى سائل، قبل أن تصل درجة حرارته إلى 1200 على الأقل، وقد تبلغ 1500 درجة، من دون أن ينطفئ على مدار الساعة ليلاً ونهاراً». يضع أبو نعيم أريكة على كرسيه المعدني، ويأخذ وضعية الممتطي فرساً ليبدأ مبارزته برمح معدني طويل، يسحب فيه الزجاج السائل إلى خارج فوّهة الفرن، ثم ينفخ في الزجاج الطريّ من خلال أنبوب، ليُعيد تشكيله بطريقة بهلوانية، وما إن تبرد حرارة الزجاج حتى يحافظ على شكله الجديد. يقول أبو نعيم متباهياً «لقد ذكرنا ابن بطوطة في كتبه، وقال عنّا إننا صانعو الأواني السحرية والزجاج العجيب في دمشق». يحتاج الفرن إلى 7 ساعات تقريباً كي يختزن الحرارة المطلوبة لصهر الزجاج، وتصعبُ إعادة تشغيله بشكل دوري أو يومي، لذلك يُبقي أبو نعيم الفرن مشتعلاً، «ولا ينطفئ خلال العام إلا مرتين عند مجيء الأعياد»، وللسبب ذاته حُرم عمال هذه الورشة من يوم العطلة الأسبوعي.

الآلة والحرب
يتحدث الأخ الأصغر مصطفى الحلاق أن مهنة أجدادهم أخذت طريق الانحدار قبل الأحداث الأخيرة، نتيجة منافسة الصناعات الآلية التي غزت الأسواق بأسعار رخيصة مقارنة مع الصناعة اليدوية المتقنة، ويقول: «سعر الدزينة المصنوعة في المعامل أو المستوردة من الصين، توازي سعر كاستين أو ثلاث كاسات مصنوعة بشكل يدوي... الآلية أرخص، لكنها بكل تأكيد بلا روح، وتخلو من لمسة الإبداع».
ورغم ذلك بقي المئات من السيّاح والتجار يتوافدون إلى الورشة بشكل دوري قبل عام 2011، لكن الحرب جفّفت الطرق نحو دمشق، حتى من قبل التجار المحليين الذين باتوا يخشون حتى زيارة خان الزجاج، لكثرة القذائف التي سقطت قربه في هذه المنطقة. ويقول مصطفى: «ظلّ السائح يفضل القطعة المميزة والفريدة، ولا يحب نتاج الآلات... كنا نصدّر إلى الأردن والعراق وتركيا والخليج العربي بأكمله».
«جيبولي المي بكاسة قزاز... لا أحد يعرف معنى هذه الجملة من أبناء جيل البلاستيك»


وإضافة إلى انحسار السياحة في البلاد، انقطعت اليد العاملة في ورشة خان الزجاج؛ فمن كان يعرف أسرار المهنة هاجر أو رحل، ولم يحتمل أبناء الجيل الجديد هذه المهنة «يلي ما بتطعمي خبز» هذه الأيام؛ ويتساءل مصطفى: «أخبرني... من يستطيع تحمل فرن بحرارة تفوق ألف درجة؟ ومن ينتظر أشهراً طويلة كي يبيع عدداً محدوداً من القطع والأواني الزجاجية ويقبض بعض الليرات؟!».

«جيل البلاستيك»
على رفوف مغبرة ومظلمة، يجمّع أبو نعيم منتجاته الزجاجية التي «نضجت» لتوّها، وخرجت ساخنة من الفرن لتنتظر مجيء دورها في الكسوة والرسم والتلوين. يحدّث الرجل الستيني إحدى كاساته ويقول لها «ماذا تحبين أن ترتدي اليوم؟ ما رأيك بزنّار أحمر؟» في كناية منه إلى شكل جديد سيسقطه على «خصرها» النحيل.
يقسّم أبو نعيم المنتجات إلى موسمية؛ ففي الصيف كان ينتج «الأباريق»، وفي الشتاء، بيوت «الفوانيس» و«ببور الكاز»، وفي الربيع الثريات وكرات الإنارة. ويقول: «لم يعد أي من هذه المنتجات مرغوباً، حتى القطرميزات، فقد صنعت المعامل أوعية بلاستيكية صغيرة تكفي العوائل، ولا داعي لتلك الأواني الزجاجية الكبيرة». يعود شريط الذاكرة بأبي نعيم إلى آبائه وأجداده ويقول: «جيبولي المي بكاسة قزاز... لا أحد يعرف معنى هذه الجملة من أبناء جيل البلاستيك».

«أسرارٌ مكشوفة»
يُمسك أبو نعيم وأخوه مصطفى بكل أسرار هذه المهنة، ويكادُ جوفه يفيض بها، ويودّ لو يلقى أذناً تسمعه، ليسكب فيها كل ما في جعبته دفعة واحدة، ويقول «جاءني من يودّ تعلّم هذه الصنعة، لكن أحداً منهم لم يصبر على الجلوس خلف الفرن أكثر من يوم واحد... نحن هنا خمسة أشخاص، لكل مهمته المحددة، وإذا غاب أحدنا توقف العمل بشكل كامل». وفي المقابل، أكل الزجاج من لحم العاملين في خان الزجاج ودمهم، وامتلأت أجسامهم بالندوب على مرّ السنين، لكن مع ذلك يتحدث أبو نعيم برفق عن تلك الجروح ويقول مُدافعاً: «الزجاج لا يحمل الجراثيم وجرحه طاهر ونظيف».

«مهنة وجودي»
تتألف الورشة من أربعة أقسام: فسحة كبيرة يتجمع فيها الزجاج المكسور، ليعاد تذويبه في غرفة مجاورة تحوي الفرن المشتعل، فيما تخصص غرفة لتلوين المنتجات الزجاجية وتزيينها، وأخرى أشبه بالمخزن الذي تنتظرُ فيه الأواني من يقتنيها. يمسح بشار خليل (38 سنة) الغبار عن زجاج تطرّز بالزخرفة الشرقية، ويقول بعد أن أمضى 18 سنة في صناعة الزجاج «أعمل في هذه المهنة منذ صباي، ولا أتقن شيئاً في الحياة سواها... وجودي ارتبط بوجود هذه الورشة، وإذا أغلقت أبوابها فسأسافر خارج البلاد بحثاً عن فرن آخر ما زال مشتعلاً».