مطلع العام الجاري، أظهرت القوى البرلمانية العراقية حماسة فائقة لإصدار قانون يدعو إلى إخراج القوات الأجنبية من البلاد. ساد الظن، مذّاك، أنّ بداية الفصل التشريعي الثاني ستشهد إصدار هذا القانون، غير أن الأمور سارت في اتجاه مغاير. خفتت الحماسة، وخيّمت الضبابية على مصير المشروع، الذي يبدو أنه سيخضع لعملية ترشيق تجعله، عملياً، فاقد المعنى.يتضاءل، أكثر فأكثر، حجم الزخم المحيط بمشروع قانون إخراج القوات الأجنبية من العراق. الكتل النيابية الداعية إليه، وعلى رأسها «سائرون» (المدعومة من زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر) و«الفتح» (برئاسة الأمين العام لـ«منظمة بدر» هادي العامري)، سبق أن حسمت في تصريحاتها أن الفصل التشريعي الثاني (بدأ في آذار/ مارس الماضي) سيشهد مناقشة المشروع، ومن ثم إقراره قانوناً من قِبل البرلمان، لكن، ما من شيء ملموس إلى الآن.
شكوك عزّزها حديث رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، أخيراً، من العاصمة الأميركية واشنطن، حيث اعتبر أن «الوجود الأميركي ضمانة للعراق، والمطالبة بسحب قوات التحالف في هذه المرحلة تصبّ في مصلحة الإرهاب». واستدعى تصريح الحلبوسي (الذي نفاه الأخير بعد ساعات من نشره) ردود فعل كثيرة، كان أبرزها ما أدلى به رئيس كتلة «الإصلاح والإعمار» النيابية، القيادي في «سائرون» صباح الساعدي، الذي قال إن تحالفه «لم يسحب المشروع، وقد وقع البعض في هذا الوهم»، داعياً الحلبوسي إلى «إحالة المقترح إلى اللجان النيابية المختصة: الأمن والدفاع، والعلاقات الخارجية، وفقاً لأحكام النظام الداخلي».
وتتفاوت روايات الأطراف المعنية بالمشروع الداعي إلى «إنهاء الاتفاقية الأمنية (صوفا، المعنية بتنظيم عملية الانسحاب الأميركي من العراق)، وإلغاء القسم الثالث من اتفاقية الإطار الاستراتيجي (المعنية بتنظيم عملية التعاون العسكري والأمني) الموقعتين بين العراق والولايات المتحدة عام 2008. لكن المعلومات تتقاطع عند كون المقترح أقرب إلى «مناورة سياسية» منه إلى حراك جدي، وذلك في محاولة من قِبَل طهران وحلفائها لتصعيد الضغوط على واشنطن.

خفض السقف
مصدر من داخل كتلة «الفتح» يقول إن اللجان المشتركة مع «سائرون» أنهت صياغة «أكثر من 80 بالمئة من نصوص المشروع». ويعلّل التأخر في تقديمه إلى البرلمان بـ«الزيارات الرسمية التي شهدتها العاصمة بغداد أخيراً»، فضلاً عن انشغال الرئاسات الثلاث بارتباطات خارجية. ويضيف المصدر، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الفتح» ينتظر جواباً نهائياً من «سائرون» للمضيّ قدماً في المشروع داخل أروقة البرلمان، متابعاً أن «الكتلة الأكبر (سائرون 54 نائباً) تنتظر الجواب النهائي من الصدر»، على حدّ قوله. وإذ ينفي أن تكون هناك «ضغوط خارجية» على الكتلتين لإمرار أي قانون مماثل، فهو يؤكد أن «القانون سيكون منسجماً مع الرؤية الحكومية». هذا الموقف الأخير يبدو تغليفاً للتراجع عن قانون عالي السقف، إلى آخر يقتصر على ما يُسمّى «إعادة تنظيم الوجود الأميركي»، بمعنى أن تكون الحكومة على دراية تامة بعدد الجنود المنتشرين على طول الأراضي العراقية، وأماكن انتشارهم، ومهماتهم المرتبطة مباشرةً بتكليفات فنية/ استشارية/ تدريبية من قِبَل الحكومة وقيادة القوات المسلحة.
يعلّل معنيون التأخر في تقديم المشروع بزحمة الزيارات الرسمية للعراق


وفي الاتجاه نفسه، يعزو مصدر آخر من داخل «الفتح» التأخر في طرح القانون إلى المهلة التي طلبتها الحكومة حتى «تعيد النظر» في حاجاتها العملية لعديد تلك القوات أولاً، إضافةً إلى حدود التعديلات التي قد تطرحها على «مذكرة التعاون الاستراتيجي» ثانياً. ويؤكد المصدر، في حديث إلى «الأخبار»، أن «القانون بات في حوزة لجنة الأمن والدفاع النيابية، ويحتاج إلى بعض التعديلات قبل أن يُدرج ضمن بنود أي جلسة برلمانية»، متوقعاً أن يُطرح خلال الأسابيع المقبلة.
كذلك، ينفي النائب، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أي حديث عن وجود ضغوطات أجنبية لإصدار هذا القانون، مؤكداً أن «المطلب الوطني هو المحرك الرئيس لهذه الدعوة».
من جهتها، تؤكد مصادر في «التيار الصدري» أن التيار والصدر لن يتراجعا عن كلمتهما في إمرار القانون، متهمة الحلبوسي بالخضوع لضغوط أجنبية، والتصريح بـ«أمر لم يكن يُتوقّع». وتتبنى المصادر كلمة الساعدي التي أكد فيها أن «الرئاسات الثلاث لا يمكنها أن تحلّ محل مجلس النواب، وإلغاء اختصاصاته التشريعية والرقابية... والحلبوسي هنا لا يمكن أن يحلّ مكان الكتل». لكن المصادر تعود لتشدد على أن الحراك الداعي إلى إصدار القانون «يحترم الرؤية الحكومية للحاجة العملية لوجود قوات مماثلة». وفي ذلك تفسير لمقولة أن «الخطاب النظري سياسي محض، والإجراء التنفيذي سيكون دبلوماسياً يراعي التوازنات».

مناورة سياسية
في الخلاصة، يمكن إيراد عدة نقاط تؤكدها لـ«الأخبار» مصادر سياسية واسعة الاطلاع:
1- ليس هناك حراك جدي لإصدار قانون مماثل، وما يجري تهويل إعلامي، لحسابات سياسية محلية وإقليمية.
2- حتى لو صدقت تلك القوى، وقدمت مقترح قانون متكامل للبرلمان، فهو سيخضع لتعديلات عديدة، وترشيق من شأنه تفريغه من مضمونه، وإبعاده عن الهدف الرئيس من إصداره.
3- تالياً، وفي حال صدور القانون بصيغة عالية السقف، فإن علامات استفهام عدة تطرح حول إمكانية تنفيذه، خصوصاً أن حكومة عبد المهدي لا تبدي استعداداً للتخلي عن سياسة إمساك العصا من الوسط، وهي ترفع شعار تنظيم هذا العدد الهائل من الجنود والقواعد (أكثر من عشرة آلاف جندي) وفق ديباجات تخدم صورتها أمام القوى السياسية أولاً، والشارع العراقي ثانياً.