لن تغادر القوات الأميركية الأراضي السورية. هذا ما رست عليه خطط إدارة الرئيس دونالد ترامب، حتى ليل أمس، بعد نحو ثلاثة أشهر من الجدل حول المواعيد المفترضة للانسحاب والخطط لما بعده. القرار الأخير أتى بعد نقاشات مطوّلة أجرتها واشنطن مع شركائها في «التحالف الدولي»، وخرجت منها بردّ صريح: «دخلنا (سوريا) معاً ونخرج معاً». ومن دون تعداد المخاوف الأوروبية (الواقعية) من التورط في نشر قوات عسكرية بلا سند أميركي، يَظهر توجّه واشنطن «حلاً وسطاً» يبدّد هواجس الحلفاء، في مسعى لجرّهم نحو «التزام» عسكري أوسع.
نازحون من الباغوز في انتظار تفتيشهم من قبل «قوات سوريا الديموقراطية» أمس (أ ف ب )

كما أنه يلبّي ـــ جزئياً ـــ طموحات جناحين أميركيين متباينَي الرؤى، أولهما يريد «نصراً على داعش وانسحاباً» (وإن لم يكن كاملاً)، والآخر يعوّل على «حفظ» المكاسب الجيوسياسية من احتلال الشرق السوري. ولهذا حرص «البيت الأبيض» على عدم اعتباره «انقلاباً» في خطط الرئيس، بل انتقالاً إلى مرحلة جديدة من المهمة، تحت عنوان «حفظ السلام والاستقرار». ولم يمض يومٌ على إعلان النوايا بإبقاء نحو 200 عسكري أميركي في مهمة «حفظ سلام»، حتى خرجت تسريبات عن «مسؤول كبير» في إدارة دونالد ترامب، تقول إن الولايات المتحدة سوف تبقي 400 من عسكرييها في مناطق شرق الفرات والتنف. المسؤول نفسه لفت إلى أن العسكريين الباقين (مستقبلاً) سيعملون ضمن قوة مشتركة تضم بين 800 و1500 عسكري من حلفاء الولايات المتحدة، وبخاصة الأوروبيين، في إطار التزام لإنشاء «منطقة آمنة» ومراقبة الأمن فيها. وأوضح أن واشنطن تجري محادثات مع حلفائها لتحديد طبيعة وحجم القوات التي سيلتزمون نشرها في تلك المنطقة.
التعويل الأميركي على اجتذاب أعضاء «التحالف» للمشاركة في «قوة حفظ سلام» تتولى إنشاء «منطقة آمنة» ومراقبتها، حضر بوضوح في تصريحات مسؤولي وزارة الدفاع أمس، من دون الحديث عن مستقبل مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» خارج تلك المنطقة. وكان لافتاً أن الإعلان الأول من الناطقة باسم «البيت الأبيض» خرج عقب اتصال هاتفي بين ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، وقبل ساعات على وصول وزير الدفاع التركي خلوصي أكار إلى واشنطن، للقاء نظيره الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزف دانفورد. فالموقف التركي من «منطقة آمنة» يديرها «التحالف» كان متشدداً في الرفض، ولم يخرج حتى وقت متأخر من أمس ما يخالف ذلك.
القرار الأميركي قد يفتح المجال لعودة التصعيد في محيط التنف


وبمعزل عن احتمالات تنفيذه من عدمه، يطرح التوجّه الأميركي الأخير تساؤلات جديدة حول مصير شرق الفرات، ومن خلفه سوريا. فبقاء «قوة مشتركة» تحت لواء «التحالف» يكرّس انفصال مناطق نفوذ «قوات سوريا الديموقراطية» عن سلطة دمشق، التي أكّدت مراراً سعيها لاستعادة كل الأراضي السورية، بالمفاوضات أو النار. وفي ضوء التحديات الأمنية التي خلّفها وجود «داعش» السابق على طول وادي الفرات، ومعارضة كل من تركيا، ودمشق وحلفائها، لأي «حلّ» يُديم سلطة «قسد» (وحدات حماية الشعب الكردية من وجهة النظر التركية)، لن تكون مهمة «حفظ السلام» الأميركية ــ الأوروبية نزهة بلا كلفة، بل على العكس، ستكون تلك القوات هدفاً مشتركاً لأطراف عدّة تملك القدرة والدافع، وهو ما قد يفتح المجال لتكرار أحداث تحاكي «تفجير منبج» الذي قتل عسكريين ومتعاقدين أميركيين الشهر الماضي. ويضاف إلى ذلك، احتمالات عودة التصعيد إلى محيط منطقة التنف، حيث يخطط الأميركيون لإبقاء نحو 200 عسكري لتأمين قطع طريق دمشق ــ بغداد، والضغط على دمشق وحلفائها عسكرياً واقتصادياً.
وفي انتظار بيان موقف أنقرة، التي كانت قد بدأت نقاش مرحلة «ما بعد الانسحاب» مع كلّ من واشنطن وموسكو وطهران، كان لافتاً أن تصريحات مسؤولي الولايات المتحدة تحدثت عن مشاركة قواتها مع الأوروبيين ضمن «المنطقة الآمنة»، من دون التطرّق إلى مصير المناطق التي تديرها «قوات سوريا الديموقراطية»، لا سيما مناطق هامة مثل الرقة والطبقة. وبينما رحب مسؤولو «الإدارة الذاتية» بالقرار الأميركي، ركزت تصريحاتهم أمس على نقطتين رئيستين: الأولى أن القرار قد يشجّع دولاً أوروبية على «الاحتفاظ بقوات» في سوريا، والثانية أنه سيكون «وسيلة ضغط على دمشق لإجراء حوار جادّ». ولا تشير المواقف الحكومية السورية السابقة إلى استعداد لقبول أي صيغة «حكم لا مركزي» خارج إطار القوانين النافذة، خصوصاً أن دمشق وحلفاءها التزموا «التشكيك» بنوايا الانسحاب الأميركي منذ إعلانه، فيما لا تبدو مشاركة ممثلي «مجلس سوريا الديموقراطية» في مسار «الحل السياسي» وفق صيغة «أستانا/ سوتشي» متاحة ـــ حتى الآن ـــ، بوجود «الضامن» التركي، وهيمنته على قرار الجناح المناهض لدمشق.