قبل يوم واحد من ذكرى جلاء القوات الفرنسية عن سوريا، أكدت باريس على لسان رئيسها أن قيادتها العدوان الأخير على سوريا جاءت لضرب تفاهمات ومنجزات روسيا وتركيا وإيران، عبر مسار أستانا.باريس تريد أن تحجز لنفسها مقعداً أساسياً في «ملفات المنطقة» وأن تتصدّر المشهد، فيما كشفت أنقرة رفض طلب حضور الرئيس الفرنسي للقمة الثلاثية الأخيرة، ليبدأ بعدها جهد فرنسي واسع للثأر على الأرض السورية، بلغ إحدى ذراه في نشوة فرنسا بقيادة ضربة عسكرية على العاصمة التي طُردت منها قبل 72 عاماً.
«هذه مهمة كنا نستعد لها منذ عدة أشهر، ووافق الشركاء على تنفيذها ضمن إطار مسؤولية فرنسا»، هذه الجملة التي استخدمها رئيس أركان سلاح الجو الفرنسي الجنرال أندريه لاناتا، في حديثه عن دور بلاده «القيادي» في العدوان العسكري الأخير على سوريا، تختصر الكثير من النقاش عن أسباب هذا الاعتداء ومبرراته وأهدافه. التصريحات التي خرجت عن المسؤولين في باريس أخيراً، أوضحت حجم الجهد الذي بذلته فرنسا في تهيئة الأجواء لهذا التحرك، ورسمت تصوراً لدورها المستقبلي المفترض، ومن خلفها «حلف شمال الأطلسي»، في سوريا والمنطقة. الرئيس إيمانويل ماكرون، خرج بعدد من النقاط اللافتة جداً خلال حديث تلفزيوني، بدأت بإقناعه نظيره الأميركي بعدم الانسحاب من سوريا، وصولاً إلى تأكيده أن الضربة مكّنت من «التفريق» بين روسيا وتركيا. هذا الوضوح الفرنسي بشأن الأهداف الحقيقية للعدوان، يشير إلى أن هدف التحركات الأطلسية ــ الأميركية (بمشاركة دول إقليمية) هدم منجزات التفاهمات التي شهدها الميدان السوري خلال العامين الماضيين، التي كان للتحالف الثلاثي، الروسي ــ التركي ــ الإيراني في مسار أستانا، دور مهم في تحقيقها. الحديث الفرنسي ترافق مع إشارة إيرانية واضحة، أمس، عبر وزارة الخارجية، إلى أن العدوان هدفه «إحداث شرخ» بين «ثلاثي أستانا»؛ ولقي استنكاراً واضحاً من موسكو وأنقرة على حد سواء، ونفياً لتأثّر العلاقات الثنائية بينهما. واستدعى التصعيد الفرنسي كشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حقيقة أن الرئيس الفرنسي طلب حضور «قمة أنقرة» الأخيرة (16 آذار)، التي جمعت رؤساء روسيا وإيران وتركيا، ولكنّ طلبه قوبل بالرفض. وهو تصريح لافت كذّب رواية ماكرون عن أن تطورات ملف استخدام الكيميائي هي التي حالت دون حضوره القمة. هذا التوضيح التركي، وإن لم يبيّن أسباب الرفض، فإنه يفسّر السلوك الفرنسي، بالشراكة مع الحلفاء، خلال الشهرين الماضيين. ففي موازاة انعقاد القمة حينها، خرج رئيس الأركان الفرنسي فرنسوا لوكوانتر، ليهدد بـ«قدرة» قوات بلاده على التحرك «منفردة» في حال تجاوز «الخط الأحمر» الذي حدده الرئيس، وهو «الاستخدام المؤكد» للأسلحة الكيميائية. كذلك اتخذت فرنسا موقفاً مضاداً للأتراك في عفرين، ودخلت على خطّ منبج عبر الحديث عن إرسال قوات خاصة إضافية إلى هناك، وصولاً اليوم، إلى مشاركتها في العدوان العسكري، وبدئها إجراءات سحب «وسام الشرف الفرنسي» الذي سبق أن منحته للرئيس بشار الأسد. وبالتوازي، بدأ «حلف شمال الأطلسي» مسلسل مغازلة تركيا، ومنذ أيام لا يكلّ أمينه العام ينس ستولتنبرغ من التشديد على محورية الدور التركي ضمن الحلف. وخلال زيارته أمس لها للقاء وزير دفاعها والرئيس رجب طيب أردوغان، أكد أن «تركيا مهمة لحلف الاطلسي، والحلف مهم بالنسبة إليها». ولم يمنع هذا الجوّ الأطلسي الدافئ وزير الخارجية التركي من الردّ على كلام ماكرون، بلهجة حادة، إذ قال إن أنقرة «تتوقع تصريحات تليق برئيس»، مضيفاً أنها «تملك علاقات قوية مع روسيا... وهي ليست ضعيفة إلى درجة يمكن الرئيس الفرنسي أن يقوضها»، قبل أن يستدرك أنها «ليست بديلاً من العلاقات مع الحلف الأطلسي». وبالتوزاي، جاء الرد الروسي على لسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، الذي أكد أن تباين مواقف موسكو وأنقرة حول عدد من القضايا «لا يؤثر في التعاون» بينهما.
رُفض طلب ماكرون حضور «قمة أنقرة» الأخيرة


اللافت أمس أيضاً، كان الردّ الأميركي على تصريحات ماكرون حول بقاء القوات الأميركية في سوريا، إذ أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن «المهمة الأميركية لم تتغير. قال الرئيس بوضوح إنه يريد أن تعود القوات الأميركية في أقرب وقت ممكن... ونتوقع أن يتحمل حلفاؤنا وشركاؤنا الإقليميون مسؤولية أكبر عسكرياً ومالياً من أجل تأمين المنطقة»، وهو ما علّق عليه الرئيس الفرنسي بأن المشاركة الأميركية في الضربات أظهرت إدراك واشنطن أن «مسؤوليتنا تتجاوز مكافحة داعش». وترافق ما سبق مع حديث تركي عن التوصل إلى «خريطة طريق» مع الجانب الأميركي بشأن مدينة منبج. وأوضح جاويش أوغلو أن «الخريطة ستطبّق عندما يتولى وزير الخارجية الأميركي الجديد (مايك بومبيو) مهماته».
وبالتوازي، مع محاولة فرنسا تسويق مشروع قرار «شامل» في مجلس الأمن، يغطّي «كل جوانب» النزاع السوري، بما فيها التحقيق بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية، كشفت عن ورقة «تقييم» صاغتها في محاولة لتأطير الأدلة التي دفعتها إلى قيادة العدوان الأخير. وتعتمد تلك الورقة، حصريّاً، على ما نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي من صور وتسجيلات فيديو، بعد أن قامت الاستخبارات الفرنسية بتحليلها. وترافق ذلك مع تعثّر في جدول أعمال منظمة «حظر الأسلحة الكيميائية»، التي كان من المقرر دخولها إلى مدينة دوما، أمس. إذ أُجِّل الموعد، وفق المنظمة، بناءً على طلب روسي ــ سوري، مبررٍ بأسباب تتعلق بأمن الفريق. وأكد مسؤول روسي أنه سيجري تفحص الطرق الموصلة إلى مكان جمع الأدلة في دوما، من قبل الأجهزة الأمنية لدى الأمم المتحدة، على أن يصل فريق التحقيق إلى الموقع غداً الأربعاء.