«ما من رجلٍ عدائي تجاه المرأة، كاره أو مزدرٍ لها، أكثر من رجلٍ قلق حيال رجولته».(سيمون دو بوفوار ـ «الجنس الآخر 1»)


توقيتٌ إشكاليّ اختارته لينا خوري لعرض مسرحيتها الجديدة «حكي رجال» (كتابة لينا خوري، رامي طويل وفؤاد يمين ــ سينوغرافيا حسن صادق). في وقتٍ يشهد فيه العالم ذروة الخطاب النسوي، لا سيما بعد بروز حملة «me too» لمكافحة التحرّش التي ترافقت مع فضائح طالت سلوكيات رجالٍ ذوي نفوذ في هوليوود بحق المرأة... تجد بيروت نفسها على موعدٍ مع مسرحية تطالب الرجل بالكلام.

للوهلة الأولى، قد يجعلك العنوان المرتبط بثيمة العمل الأساسية تخشى أن تكون أمام عملٍ اعتذاريّ يتبنى خطاباً من ذلك الذي نواجهه بشكلٍ يوميّ، لا سيما على السوشال ميديا، مثلما نسمعه على شاشات التلفزيون وفي أماكن العمل وفي سيارات الأجرة. خطابٌ اختزالي متذاكٍ عن «حقوق الرجل» يشهره المتحدث في وجه من يتكلم عن «حقوق المرأة»، الموضوع الذي لا يزال في بلادنا وعلى مستويات واسعة، محطّ استخفاف وتندّر، لأسباب كثيرة لا يسعنا المجال هنا للخوض فيها.
ما سنشاهده في «حكي رجال» يناقض هذا التوقع. المسرحية الخامسة للينا خوري التي ترتكز إلى عملية «الكاثارسيس» (التطهّر)، تضيء على زاوية غير متناوَلة كثيراً من قبل، لا سيما على الخشبة. زاوية يمكن أن نسمّيها: الجُرح النرجسي للذات الذكورية.
في العرض الذي يأخذ من أسلوب «المسرح داخل المسرح» مدخلاً له، تبحث المخرجة عن «رجال يتكلّمون». قد يتساءل المشاهد إذا كان ينقص الرجل أن يتكلّم، خصوصاً في بلادنا. ولماذا تريده أن يتكلّم هنا، حيث يتصدّر الكلام واللغة (ومعظم الأمور الأخرى) منذ قُرون، فيما تتخذ المرأة في العالم، شيئاً فشيئاً، المبادرة في الكلام. ما يتضح من أحداث المسرحية أن لينا تبحث عن رجال ليبوحوا، لا ليتكلموا. هذا ما ينقص الرجل من وجهة نظر المسرحية. أن يُخرج مشاعره المقموعة، أن يكسر حواجز المقاومة بالمعنى الفرويدي، وأن يتطهّر من مخاوفه العميقة.

يبدو رجال
المسرحية شخصيات مهزومة، وعاجزة

في كتابه «دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة»، يربط المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، بين الإحساس بالعجز الذي هيمن على العرب بعد نكسة حزيران 1967، وبين صعود الخطاب الذكوري المتخذ من الدين لغةً وبنيةً أساسية. يرى أبو زيد أن العنف المتزايد الذي وُجّه تجاه المرأة العربية في الحقبة التي أعقبت النكسة، وفي مصر على وجه خاص، ناتج عن ذلك الجرح العميق في صورة «الرجل» أمام نفسه. يقول المفكر المصري: «تعويضاً عن العجز في المواجهة، لجأت الذات الجريحة للهروب إلى الماضي، إلى هويتها الأصلية، إلى الرجولة في بقائها المتوهّم». حاول الذكر المهزوم إذاً الاحتماء بصورته عن نفسه في الدين والتاريخ لتجاوز فشله الحاضر، الأمر الذي تُرجم في غالبية الأحيان عدائيةً تجاه المرأة.
انطلاقاً من هذه المقاربة، يبدو رجال المسرحية شخصيات مهزومة، عاجزة. الهزيمة هنا ليست مطابقة لمعنى الهزيمة الذي يقصده أبو زيد والذي يتخذ بعداً قومياً وسياسياً، لكنّها هزيمة ناتجة عن المواجهة مع النظام الاقتصادي والاجتماعي المهيمن، وربما عن دورة الحياة ككلّ. حياةٌ كفيلة بـ «طحن» من تعبر عليه، لتترك مرارة قادرة على صناعة شخصيات جاهزة للصدام مع الآخر. «جُرح الهوية» ظاهرٌ للغاية في المسرحية، لا سيما في المونولوغات. الطبقيّة، الضغوط الاقتصادية، الأدوار الجندرية المقررة سلفاً، محورية الجنس وأسطرته، التوقعات في العمل والعائلة، الأحلام المحطّمة، كلها أعباء تركت جراحاً غائرة في هذه الهوية.
قد تدعو هذه المعالجة إلى التساؤل عما إذا كنّا أمام عملٍ يقول لنا إن الرجل والمرأة سواسية تحت هذا النظام، ويتجاهل أن هذا النظام أمّن للرجل مكتبسات، لا تزال المرأة تناضل للحصول عليها. وهل نحن أمام عملٍ يقول لنا «ليس هناك فرقاً بين الضحّية والجلّاد»؟ ليس ذلك تماماً. في الواقع، إن المسرحية لم تقع في فخّ «الهروب إلى الأمام» عبر إلقاء اللوم على «السيستام» فقط، مثلما يفعل كثيرون عند إثارة النقاش حول هذه الثنائية، بهدف «تجريد» المشكلة واتهام طرف ثالث لا يمكن محاربته فعلياً. لكنّها، بالرغم من حساسية الموضوع وضيق الهوامش فيه، و«العسكرة» السائدة حياله في العالم اليوم بالتزامن مع فورة «الصوابية السياسية» (Political correctness)، تخرج بخلاصات ذكّية تقدّم حججاً تخدم الخطاب النسوي أيضاً.
فالعرض الذي ترمز السينوغرافيا الخاصة به إلى ذكورةٍ متصدّعة، يلقي الضوء بشكلٍ أساسي على كون الهوية الجندرية هي بناءٌ اجتماعي (social construct)، أي أنها دورٌ يفرضه المجتمع ليتلبّس الإنسان منذ ولادته، ذكراً كان أم أنثى.
تُبرز هذه الزاوية شخصية مارك (جوزيف زيتوني)، وجانبٌ من حديث فؤاد (فؤاد يمين) يركّز على دور المرأة في تكريس العقلية الذكورية، لا سيما عبر التربية... فالذكوريون في النهاية ربّتهم نساء.
«لا نولد امرأة، بل نصبح كذلك». إنها جملة سيمون دوبوفوار الأكثر شهرةً التي غالباً ما تفسّر بغير معناها. الفيلسوفة الوجودية انطلقت من نظرية شريكها سارتر التي تقول لنا، بالمختصر إن الإنسان «يصير، لا يكون». هذا تماماً ما ينطبق على «الرجل» أيضاً، كتسمية لدورٍ اجتماعي مبني، لا كمصير مُعطى سلفاً. على خشبة مسرح «المدينة» في بيروت، ابتداءً من الليلة، سنشاهد ونستمع لـ «حكي رجال» لم يولدوا «رجالاً»، بل أصبحوا كذلك!




«فلسفة» السينوغرافيا

انتهت قبل أيامٍ قليلة ورشة عمل في السينوغرفيا نظّمها السينوغراف حسن صادق في «مسرح المدينة» ضمن التحضير لمسرحية «حكي رجال». التجربة هي الأولى خارج الجامعة «اللبنانية ــ الأميركية» (LAU) حيث أعدّ صادق بالتعاون مع لينا خوري ورش عمل مماثلة اقتصرت على طلّاب الجامعة. «أحببنا هذه المرة أن نشارك التجربة مع المهتمين بالتعرف إلى السينوغرافيا من لحظة بدايتها تاريخياً حتى اليوم، وهذا الشق النظري من الورشة، ثم الانتقال إلى قراءة النص وتحليله دراماتورجياً ثم تكوين عناصر السينوغرافيا وهذا الشق العملي الذي يؤدي إلى تنفيذها». يؤكد صادق أن السينوغرافيا هي فلسفة تقوم على «تشييء الجوهر» عبر تحويل رؤيا إخراجية إلى عناصر مادية نراها أمامنا على الخشبة. أي أن ما قد نظنّه مجرد «ديكور» هو في الحقيقة ناتج عن مخاض طويل من فهم النص وفكرته النهائية لتجسيده عبر بناء هوية بصرية للمشهد، وذلك ينطبق على المسرح والسينما والتلفزيون. بالإضافة إلى «حكي رجال»، اشتغل صادق على أعمال مسرحية وسينمائية ودرامية عدة، أوّلها سينوغرافيا لحفلة لفيروز في وسط بيروت عام 1994، وآخرها سينوغرافيا فيلم «نار من نار» لجورج هاشم.




هدف النصّ

في جوابه عن سؤال حول هدف النصّ في هذا التوقيت بالذات، يلفت الروائي والسيناريست السوري رامي طويل، الذي شارك في كتابة العمل، إلى جانب لينا خوري والممثل فؤاد يمين، إلى مفارقةٍ ساخرة لا بد من الاعتراف بها. برأيه إن «السلطة الذكورية وحدها من تؤمّن المساواة بين الرجل والمرأة، من خلال قمعها لهما كأفراد. وهذه إحدى الإشكاليات التي يحاول العمل البحث فيها». يتساءل طويل إذا كانت السلطة الذكورية وهي تمنح الرجل امتيازات تضمن تفوقه وسيطرته على المجتمع على حساب المرأة، تتيح للرجل التعبير عن نفسه كفرد؟ ليعود ويؤكد أننا بوقفة حقيقية أمام ذواتنا «سنكتشف أنّ النظام الذكوري لم يكن قامعاً للمرأة فقط، بل للإنسان عامّة باختلاف جنسه. إنه أقرب ما يكون إلى الأنظمة الديكتاتورية التي تمنح فئة من الناس أوهاماً تعزز تفوّقها، وفي الآن ذاته تحوّلها إلى قطيع يسعى لتكريس سلطة القائد بمعزل عن حاجاته (كأفراد)».
أما بالنسبة لفؤاد يمين الذي كتب بدوره جزءاً من النص، فـ «هناك أعمال فنية كثيرة تاريخياً تكلمت عن المرأة وألمها، لأن التاريخ يُكتب من وجهة نظر المنتصر، أما الفنّ فيتكلم بلسان الخاسر أو الضعيف»، وفيما يؤكد أن «هناك شعوراً بأن أحوال المرأة تتحسّن في العالم برغم أن وضعها في لبنان ما زال يحتاج إلى الكثير من النضال، هناك حاجة إلى الاستماع إلى الرجل الذي مرّ وقتٌ طويل من دون أن يسأله أحدٌ «كيفك؟». يستفزّ يمين التعميمُ في حالة المرأة والرجل، فكما لا يمكننا أن نقول إن هناك نموذجاً واحداً للمرأة، لا يمكننا القول إن هناك نموذجاً واحداً لـ«الرجل الذي تسبب برداءة وضع المرأة»، كما أن «العمل يُظهر أن صورة الرجل التي تضايق المرأة، تضايق الرجل أيضاً».