من كان ليتوقع أنّ البلاد التي في الموروث العربي اشتُق اسمها من «اليُمن»، وهو الخير، تيمناً بـ«بساتينها الخصبة التي تتخللها أنهار جارية»، والتي لُقبت عبر التاريخ بـ«اليمن السعيد» و«العربية السعيدة» و«أرض الجنتين»، ستواجه في القرن الواحد والعشرين «المجاعة الأكبر في العالم» وسيلاً من الأوبئة التي ظنّ الزمان أنه قضى عليها.
فبعيداً عن دوي الانفجارات وأصوات القذائف وأزيز الرصاص، يخنق العدوان السعودي، بهدوء وبلا ضجيج، أرواح مئات الآلاف من اليمنيين من خلال حصار على المنافذ الجوية والبحرية والبرية، اشتد في العامين الماضيين، حتى بات اليوم السيف الذي «قطع شريان الحياة» عن البلد العربي الأشد فقراً.
وفي زمن تحوّل فيه المواطن العربي إلى مجرد رقم، ووسط تزاحم «مناطق الصراع» المحيطة باليمن، والتي راح ضحيتها الملايين منذ اجتياح العراق، لم ينجح عدد شهداء القصف المباشر لتحالف العدوان بقيادة السعودية، وهو 13603 يمنيين من ضمنهم 2,887 طفل، في اختراق جدار التعتيم الإعلامي وحواجز اللامبالاة المنتشرة في العواصم العربية والغربية على حد سواء.
بل أكثر من ذلك، يتفاخر «التحالف» بعدد الضحايا «المتواضع» مقارنةً بسوريا والعراق، مقللاً من قيمة كل روح يخسرها هذا الشعب.
وعلى الرغم من دموية المجازر التي تقول المنظمات الدولية إنها ترتقي إلى مستوى «جرائم الحرب»، فإن الجريمة الكبرى التي يرتكبها «التحالف» وترتقي إلى مستوى «جرائم الإبادة الجماعية»، هي إغلاق المطارات والموانئ وغيرها من المنافذ ومنع وصول المساعدات الإنسانية، من غذاء ودواء، إلى البلد الذي يستورد 90 في المئة من احتياجاته الأساسية.
ففي الوقت الذي تتنافس فيه الغارات والمجاعة (17.8 مليون يمني يعاني من انعدام الأمن الغذائي) على حصد العدد الأكبر من الضحايا، قتلت الأوبئة التي أعاد العدوان إحياءها أكثر من 247 ألف مواطن (وفق وزارة حقوق الإنسان في صنعاء)، لتؤكد بذلك أنها الأشد فتكاً والأكثر قدرةً على الزحف بهدوء من محافظة إلى محافظة ومن يمني إلى آخر بغض النظر عن الانتماء السياسي والطائفي والقبلي والمناطقي.

يموت الأطفال
بمرض «الديفتيريا»
القديم الذي يمكن
تجنّبه باللقاحات

فبعد انهيار القطاع الصحي وتوقف غالبية المراكز الصحية عن العمل، نتيجة إما القصف المباشر (301 مستشفى ومركز صحي) أو عدم القدرة على تقديم الخدمات الطبية إثر نفاد الأدوية والمستلزمات الطبية والخسائر البشرية التي مُني بها الطاقم الطبي، تحوّل اليمن إلى ملاذ آمن لعدد من الأوبئة، آخرها مرض الخُنَاق (الديفتيريا).
ومنذ أن بدأ المرض بالتفشي قبل أسابيع، سجلت «منظمة الصحة العالمية» حتى الآن «34 حالة وفاة و283 حالة إصابة على الأقل تنتشر في 15 محافظة من أصل 23، وفي 64 مديرية من أصل 333»، في حين حذّرت الأمم المتحدة أن «مليون طفل يمني على الأقل معرضون للإصابة بسبب منع التحالف دخول التطعيمات واللقاحات».
و«الديفتيريا» هو التهاب حاد معدٍ يصيب الجهاز التنفسي ويؤدي إلى تضرر البلعوم، والأنف، وأحياناً القصبة الهوائية، كما يؤثر السم المفرز من بكتيريا المرض على الأعصاب الطرفية، وعضلة القلب، والأنسجة الأخرى. وينتقل المرض من شخص لآخر عن طريق الجهاز التنفسي ويمكن أن يؤثر على جميع الفئات العمرية، خاصة الأطفال ما بين سن الخامسة والرابعة عشرة الذين وفق تقرير أرسلته «منظمة بلا حدود» إلى «الأخبار»، يشكلون «نصف الحالات المشتبه فيها، بينما قرابة الـ95 في المئة من الوفيات هم من الأطفال ما دون الـ15 عاماً». وأفادت المنظمة بأنه «عالمياً، تم القضاء على الديفتيريا في معظم الدول، وأصبحت هذه العدوى مرضاً منسياً إلى حد ما، وحتى في اليمن، سُجِّلت آخر حالة في عام 1992، وحصل آخر تفشٍّ في عام 1982. لكن الحرب الدائرة والحصار المستمر يؤديان إلى تراجع النظام الصحي في اليمن عقوداً إلى الوراء».
وفي هذا السياق، قال ممثل «منظمة الصحة العالمية» في اليمن نيفيو زاغاريا، إنه «من الصادم أن يموت الأطفال عام 2017 بمرض قديم، يمكن تجنّبه باللقاحات ويسهل علاجه»، مضيفاً «من المؤسف أن اليمنيين يموتون في حين أن العلاج موجود على بعد بضع ساعات منهم»، في إشارة إلى منع «التحالف» وصول المساعدات الطبية.
وهذا ما أكّده المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة في صنعاء عبد الحكيم الكحلاني، معلناً «نفاد المضادات الحيوية المنقذة لحياة المصابين بالديفتيريا وعدم القدرة على الحصول عليها من الخارج»، داعياً «المجتمع الدولي ومؤسساته الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة لتحمّل تبعات هذه الكارثة الوبائية».
وأشار الكحلاني في حديث إلى «الأخبار» إلى أن «وزارة الصحة العامة والسكان بذلت خلال العقود الماضية جهوداً جبارة لتطوير وتوسيع خدمات التحصين الموسع لأطفال اليمن حتى وصل في أحد الأعوام إلى نسبة تغطية 88 في المئة»، متابعاً «إلا أن العدوان السعودي - الأميركي تمكن خلال ألف يوم من القصف والحصار من إضعاف نظام التحصين تدريجياً ما فتح الباب أمام تفشي الأوبئة التي يمكن التحصن منها مثل الديفتيريا».
وكانت 110 منظمات إنسانية محلية ودولية قد أعلنت في تقرير مشترك نشرته الشهر الماضي تحت عنوان «وثيقة الاحتياجات الإنسانية في اليمن للعام 2018»، أن الوضع الإنساني بات «أسوأ من أيّ وقت سابق مع ارتفاع عدد من يحتاجون إلى مساعدة إنسانية عاجلة من 20 مليون نسمة إلى 22.2 مليون، في الأشهر الثلاثة الماضية»، معتبرة أن «الهجمات المتعمدة ضد المدنيين والبنى التحتية، بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي والحصار الخانق، جميعها عوامل ساهمت في تفشي الديفتيريا مؤخراً، ومن قبله الكوليرا».
وأعلنت «منظمة الصحة العالمية»، الخميس الماضي، ارتفاع حالات الإصابة بالكوليرا إلى نحو مليون حالة، بينها ألفان و225 حالة وفاة، منذ 27 نيسان الماضي. وفي ما يخص الكوليرا، تتهم السلطات في صنعاء «التحالف» باستخدام الوباء كسلاح بيولوجي، لا سيما وأنه معروف بسرعة انتشاره في المناطق المزدحمة التي تفتقر إلى مياه نقية. وقال الناطق الرسمي باسم الجيش اليمني في صنعاء شرف غالب لقمان، في هذا السياق، إن السعودية أعادت إحياء الكوليرا من خلال «تسميم المياه الجوفية عبر نشر غاز الكيمتريل في السحاب»، وخلقت بعد ذلك الظروف المواتية لانتشاره من خلال «عمليات القصف المنهجي للمصادر الاحتياطية لتغذية مياه الشرب ومخازن معدات الحفر والتنقيب»، إذ تمّ تدمير أكثر من 524 خزاناً وشبكة مياه ومئات الآبار، الأمر الذي ترك أكثر من 85 في المئة من السكان بلا مياه صالحة للشرب.
وبالإضافة إلى الديفتيريا والكوليرا، انتشرت أمراض معدية أخرى مثل السحايا والجمرة الخبيثة وحمى الضنك والملاريا والحصبة والسل الرئوي والالتهابات التنفسية الحادة وغيرها، في وقت أعلنت وزارة الصحة اليمنية أن «حياة أكثر من خمسة آلاف شخص من المرضى المصابين بالفشل الكلوي و120 ألف شخص من مرضى السكري مهددة».