غبطة البطرك مار بشارة الراعي يعيش حيرة عظيمة هذه الأيام. إنه متردد جدّاً، وغير قادر على الحسم: هل حزب الله «ميليشيا» مسلّحة يا ترى، أم مقاومة؟ هو غير قادر على الحسم، المسألة غير واضحة، بصراحة! بطرك الموارنة يفهم في السياسة، ويعرف مصلحة رعاياه والشعب عموماً، لكن الوضع غاية في التعقيد! لذا بدا متلعثماً أمام محاوره الذي حثّه على تحديد موقفه الواضح، خلال المقابلة على محطة «سكاي نيوز» بالعربية.
هذه المرة لا يجلس الراعي في مواجهة الزميل ميشال الكك الذي أخرجه عن طوره قبل سنوات، خلال حديث شهير على «فرانس 24»، عشيّة تلك الزيارة التطبيعية التعيسة الذكر إلى فلسطين المحتلة، بمباركة رسولية وحماية إسرائيلية... ما زلنا نذكر عظته المشبوهة على مرمى حجر من جبل الزيتون، مؤنسناً العدو ومبشّراً بالقبول به أمام حشد المؤمنين الذين جاؤوا يستمعون إلى الكلمة الحق، تحت الاحتلال الإسرائيلي. خلافاً للكك الذي انتهر الراعي حول خطئه التاريخي الوشيك آنذاك، بدا صحافي «سكاي نيوز» متفاهماً (متواطئاً) مع ضيفه، طالباً منه المزيد، غير مكتفٍ ببضع كلمات مرتجفة مهزوزة عن «ميليشيا حزب الله».
صدق البطرك الراعي: حزب الله دخل الى سوريا من دون أن يسأل أحداً. سامحه الله كيف لم يتشاور مع وكلاء البطانيات والحليب؟ كان يجب أن «ينأى بنفسه» كما طلب منه الماريشال شالومون في «اتفاقية بعبدا»، موكلاً إلى الدواعش مهمّة مقاومة الاحتلال، وتاركاً لأبي بكر البغدادي أن ينسّق مباشرة مع غبطته في بكركي. هذا البطرك، والحق يقال، صارخ في التزاماته، ويمتلك رؤية ثاقبة. إذا اختصرنا خطابه الرؤيوي، تكون إسرائيل جاراً لطيفاً، وحزب الله ميليشيا، والبغدادي طانيوس شاهين أو يوسف بك كرم!
نفهم أن من واجب المؤمنين وإخوتهم الآخرين أن يحترموا زعيمهم الروحي، وأن من الطبيعي أن يجلّوه وينزّهوه، لكن ليسمحوا لنا بهذه القسوة. فبشارة الراعي يتحدث هنا في السياسة، ومن حقنا أن نرد في السياسة. وليسامحنا أبناء الطائفة على النبرة الساخرة. البطرك بلغ من الخفّة والأميّة السياسية مبلغاً مقلقاً. لقد ارتكب أخطاءً لا تليق بمبتدئ، منتحراً بأبناء طائفته، مستدرجاً المسيحيين إلى أبشع مكان يريده لهم الاستعمار، مخاطراً باختطاف لبنان إلى جهة مجهولة، عبر محاولة إضعاف رئيس جمهوريّته عن سابق تصوّر وتصميم. ما هي أجندة الراعي؟ ما الغاية من كل ذلك يا ترى؟ أن يشهد للحق؟ أن ينصر الضعيف، ويطرد باعة الهيكل؟ لا نعرف، أو بالأحرى يمكننا التكهّن للأسف، لكن التكهنات في أفضل أحوالها لن تكون مطمئنة، ولا مشرّفة!
نعم، من حقنا أن نرد على البطرك بشارة الراعي بما تستدعيه مواقفه ومبادراته. لو أن المرجع الروحي الرفيع «نأى» بنفسه عن بورصة المناورات والتنازلات السياسيّة، لكانت له الحصانة التي يستحق. لكن الراعي هنا يشتغل في السياسة، يقامر بمصير طائفته، ويزجّها مجدداً في الخانة «الانعزالية» التي لا نخالها تنطبق اليوم إلا على نسبة ضئيلة من الموارنة. ومن حقنا أن نرد كما يكون الرد على أي شخصية سياسية تقول لنا تصريحاً أو تلميحاً إن اسرائيل وجهة نظر، وإن التكفير خيار بين الخيارات الممكنة... إذ يتساوى في التطرف والعنف والهمجيّة مع ميليشيا حزب الله، في نهاية الأمر.
بلى، هذا ما قاله الراعي! بل إن غبطته اكتشف لنفسه مواهب المؤرخين أيضاً، وراح يعيد كتابة رواية الحرب الأهلية اللبنانية التي «صنعها الفلسطينيون». فكما حزب الله اليوم، كذلك الفلسطينيون في عام 1975، تهديد حقيقي للبنان الكرامة والشعب العنيد. كنا نحاول أن نتناسى سقطة الراعي التطبيعية، فإذا به يعود إلى الضوء ليذكرنا بالوعي الانعزالي الذي ينخر كالسرطان بعضاً من أبناء طائفته. هل هذا وقت قراءته المجتزأة التحريفية للحرب الأهلية؟ هل دوره الآن أن يعيد فتح الجراح؟ لمصلحة من؟ لا نرى من نتائج على أرض الواقع إلا نشر الحقد، والمتاجرة بالخوف، والتشجيع على العنصرية، وتحميل الآخرين أخطاءنا.
هل يجهل البطرك أن مكان مسيحيي الشرق هو في صدارة المشروع النهضوي العربي؟ وأن ضمانة مستقبل مسيحيي لبنان هي بقاؤهم في قلب العروبة، وفي طليعة حركات التحرر والمقاومة ومواجهة الاستعمار؟... لا كعملاء ووشاة و«غوييم الشبات» على طريقة أنطون لحد وسعد حداد!
ليت بوسعنا أن نسامح بشارة الراعي على بعث المسوخ النائمة في لاوعينا الجماعي. ليت بوسعنا الهروب من تأويل مواقفه وأدائه السياسي. إنها في أفضل الحالات سذاجة قاتلة! ونأمل ألا تكون أكثر من ذلك. فالبطرك الذي يفترسه الحنين إلى «اتفاق بعبدا» التآمري، تكلّم بعد أسابيع على موقف رئيس الجمهوريّة ميشال عون النزيه والوطني والمشرّف والشجاع من «سلاح حزب الله»، سياج الأمّة! هل هي محض مصادفة؟ اليوم وقد أصبح للبنان رجل قوي ومستقل في بعبدا، هل هناك من يحاول أن يزرع لنا ماريشال شالومون جديد في بكركي؟