استبد به قلقه على غير عادته، وتفكيره كله دار حول سؤال واحد: «تُرى كيف يستقبل الرأي العام العربي أحاديثه التي تبدأ قناة الجزيرة بثها هذا المساء؟».هكذا كان عليه حاله صباح الخميس ٨ تموز/يوليو ٢٠٠٤.
كانت تلك مغامرة مهنية كاملة، فهو تعوّد أن يكتب وجهة نظره على ورق، أو يدلي بأحاديث تلفزيونية يحاوره فيها مذيع كفء يدرك أدوات مهنته ويتحمل مسؤولية ضبط الإيقاع ومستوى الأسئلة التي تدخل في شواغل الرأي العام.

هذه المرة فهو يتحدث وحده من خلف مكتب، يشغل المشهد كاملاً لمدة تقارب الساعة باستثناء صور خاطفة على الشاشة لوثائق يتحدث عنها، أو لشخصيات يتطرق إليها.
كانت الفكرة التي استقر عليها ــ رغم ممانعات استمع إليها ــ أن يمزج في روايته لـ«سيرة حياة» بين قصص خلفية لم يتسن من قبل أن رواها في رحلته المهنية والسياسية الطويلة ورؤى جديدة في أحداث جارية ومراجعات ــ بالوثائق ــ لمحطات فارقة في التاريخ العربي الحديث تكشف وتنير ما غمض من أسرار.
كان يدرك أن خرق القواعد المستقرة في الصورة التلفزيونية تحدٍّ يصعب تجاوزه بسهولة.
تحمل مسؤولية المغامرة التلفزيونية، لكنه لم يستطع أن يغالب قلقه.
سألته في ذلك الصباح: «لماذا كل هذا القلق، فاسمك وتاريخك ضامنان للقبول العام الذي تطلبه؟».

كانت لهيكل تحفّظات على دخول «الجزيرة» خط التطبيع باستضافة شخصيات ومصادر إسرائيلية، غير أنه قدّر الدور الذي لعبته في الحرب على العراق... وفي الإطلالة الأخيرة، لم يشر إلى أن هذا آخر عهده بها


قال: «لا تنس أن آخر مرة وقفت فيها أمام الكاميرا مرت عليها ثلاث سنوات باستثناء مرة واحدة مُنع بثها».
«هذا عالم جديد، لا هو عالمي ولا مجاله مجالي».
«في كل مرة أكتب، أو أتحدث، أشعر بأنني أمام امتحان جديد».
كأي مغامرة من مثل هذا النوع فإنها قد تكسب وتؤكد قيمة، أو تخسر وتسحب من رصيد.
في تكتم مطبق سجّل عدداً من الحلقات جاء الآن وقت بثها واحدة إثر أخرى مساء كل خميس.
في الليلة السابقة لبث الحديث الأول دلف إلى سريره ــ يصاحبه قلقه ــ بعد الثانية عشرة ليلاً، وهو الذي تعوّد أن ينام قبل العاشرة على أقصى تقدير.
في ذلك التوقيت المتأخر فوجئت باتصال هاتفي حاورني فيه ببعض ما قلت لإذاعة الـ«بي بي سي» من تعليق على حدث جارٍ، وهو اعتاد أن يستمع إليها كلما وجد وقتاً أو أصابه أرق.
سألته مستغرباً: «لماذا أنت مستيقظ حتى الآن؟».
قال: «لا أستطيع النوم».

(١)


قبل نحو شهر ــ الخميس ١٠ حزيران/يونيو ــ الساعة التاسعة وخمسون دقيقة بالثانية، وفق مواعيده بالغة الانضباط، دخل استوديو محطة «الجزيرة» بمدينة الإنتاج الإعلامي.
تناول فنجاناً من القهوة قبل أن تدور في العاشرة الكاميرات تسجل أولى حلقاته، وكادت تلاحقه العيون والأنفاس داخل الاستوديو.
كان صوته مستريحاً بعدما تعافى من أزمة ألمت بأحباله الصوتية قبل فترة قصيرة اضطرته إلى تدخل جراحي بألمانيا.
لم يستوقف التغير الذي ألم بصوته من «بحة بها شجن» أحداً تقريباً.
أستغرب تلك الملاحظة عندما استمع إليها للمرة الأولى، لكنه كرر العبارة بشيء من الرضا، فقد أصبح ذلك صوته، وهو أكثر اتساقاً مع شخصيته وقرباً إنسانياً من مستمعيه.
عندما توقفت حركة الكاميرات وغادر موقعه اقترب من عامل الإضاءة، قبل غيره سائلاً: «إيه رأيك؟».. كأنه أراد أن يتلمس ردات الفعل المحتملة للمشاهدين العاديين قبل العرض على الشاشة.
لم يحر العامل الفني البسيط جواباً غير عبارة واحدة: «عظيم يا أستاذ طول عمرك».
وفق العقد المبرم مع المحطة كان مقرراً أن يتطرق في الـ١٠ حلقات الأولى إلى الشأن العربي الجاري قبل أن يدخل في الـ٥٠ حلقة التالية إلى «سيرة حياة».
غير أن الحلقات امتدت بأطول مما كان متفقاً عليه حتى عام ٢٠١٠ عندما قرر باختياره ــ وحده ــ التوقف عن الظهور على شاشات «الجزيرة».
سألته عن سبب تغيير بعض برامجه المعتادة والبقاء لفترات أطول في برقاش: «هوه في سر؟».
أجاب ودوداً: «هوه في تحقيق؟».
وأخذ يتلو ــ كعادته دائماً بحسب مقتضيات المواقف ــ أبياتاً من محفوظاته الشعرية:
«إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق».
مال إلى عرض «الجزيرة» من أي عرض آخر تلقاه من فضائيات عربية منافسة، فقد كانت الأكثر مشاهدة وتأثيراً في العالم العربي.

في أول حلقة من «سيرة حياة» دخل كجراح إلى أسبابه دون أن يجرح، وتحدث عن دواعيه دون أن يسهب.
كانت له تحفظات على دخول «الجزيرة» خط التطبيع باستضافة شخصيات ومصادر إسرائيلية.
غير أنه قدّر الدور الذي لعبته في الحرب على العراق ولم يخفِ إعجابه بأدائها المهني واتساع شاشتها للتنوع الفكري والسياسي في العالم العربي والحرية الواسعة التي وفرتها.
في إطلالته الأولى كانت آخر جملة استمع إليها مشاهدوه: «إذن فلتكن الجزيرة».
وفي الإطلالة الأخيرة لم يشر إلى أن هذا آخر عهده بـ«الجزيرة» ومال إلى الصمت الكامل احتراماً لنفسه وللمحطة التي استضافته لسنوات.
ذات مرة أبديت رأياً سلبياً عن حلقة بـ«الجزيرة» سجلها قبل أن يسافر إلى ألمانيا لتدخل جراحي عاجل، عددت أسبابي، وهو يستمع على سرير مرض.
تحدثت يومها، كما اعتدت بلا حواجز، لكني تنبهت بعد ذلك الاتصال أن الكلام نفسه لم يكن له لزوم في أحوال نقاهة بعد تدخل جراحي.
قلت له في اليوم التالي: «إن كثيرين يخالفونني الرأي الذي ذكرته لك، وقد يكونون هم على حق».
جاء صوته حازماً رغم الوهن: «لا تقل ذلك فما ذكرته أمس هو الصحيح».
[عزيزي عبدالله
أجد لازماً عليّ احتراماً لأدب المهنة والحق معاً أن أكتب لأدفع مظنة خطأ يمكن نسبته إلى «العربي» وإليك دون ذنب.
إنك تفضلت وسألتني في الأسبوع الماضي عن موعد إذاعة حديثي في الشأن الجاري على قناة الجزيرة وأجبتك لحظتها بما أعرف وهو في حينه صحيح، لكن الذي جرى أن إدارة الجزيرة رأت ــ ولها الشكر ــ أن يكون حديثي متوافقاً مع عملية تجديد واسعة سبقت بها، ثم إنها رأت في نفس الوقت بأفضلية أن تكون إذاعة هذا الحديث ــ وفي هذا الإطار ــ مساء الخميس، وهو نفس الموعد الذي ظهرت فيه من قبل ضيفاً على شاشاتها.
ولو تذكرت أن الصحافي فيك مستيقظ طوال الوقت ومتحفز لنبهتك حتى لا يبدو النشر تواكلاً من جانبكم أو قصوراً، ولذلك فإني أكتب هذه السطور الآن قاصداً وضع المسؤولية في مكانها الصحيح، راجياً من قرائك أن يغفروا التباس وقع بتسارع الأمور ــ شاكراً ــ لك اهتمامك وحرصك وكليهما موضع اعتزازي في كل الأحوال.
لك صادق الود مجدداً مع موفور الاحترام].
كانت تلك إشارة في ١٩ حزيران/يونيو ٢٠٠٥ إلى أدب الحق وأدب المهنة وأصول الأستاذية.



(٢)


لمرة واحدة كتب عن تجربة موجعة مع إحدى الفضائيات المصرية في الـ«استئذان في الانصراف».
ألمح ولم يفصح، اقترب من «مناطق الوجع» و«الضرب في الوجع»، لكنه لم يروِ القصة.
البداية: منتصف آب/أغسطس ٢٠٠٣ بقرية الرواد ــ على شاطئ الساحل الشمالي.
وصل وفد من قناة «دريم» يطلب أن يظهر على شاشتها متحدثاً ولو لدقائق، ولو بمشاهد عائلية مصورة، تبث ضمن احتفالية تنتويها المحطة بمناسبة بلوغه الثمانين.
قال: «حياتي الخاصة لا تعني أحداً في شيء ــ أو أنها قد تبدو تطفلاً بغير ضرورة عامة على المشاهدين في بيوتهم».
عاود وفد المحطة، وبعضهم أصدقاء مقربون، الإلحاح والضغط، وفي النهاية لم يكن أمامه إنسانياً غير أن يوافق.
كانت تجربة أحاديثه عبر «دريم»، «من قلب الأزمة إلى قلب الأمة» مشجعة.
خامرته فكرة أن الحديث من جديد، ولو لمرة واحدة، قد يساعد أجيالاً جديدة في تطلعها لمخرج من أزمة أمة ووطن.
قبل ساعات من بث حديث مسجل على شاشة «دريم» في التاسعة من مساء الثلاثاء ١٤ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٠٣ كما نوهت المحطة على مدى أسبوع كامل أعلنت اعتذارها عن عدم البث.
التنويه المكثف ساده شيء من اعتزازها بأنها حصلت على سبق إعلامي بعد استئذانه في الانصراف.
والاعتذار بدا مراوغاً، فقد منع الحديث كله دون سبب مقنع أو تبرير مفهوم.
بدت تراجيديا التسجيل والمنع داعية للتساؤل: لماذا؟
التسجيل استغرق ١٤٠ دقيقة، وهو وقت طويل ومنهك لرجل كان وضعه الصحي يتطلب عدم الإفراط في الكلام إلا لضرورة ملحة، أو لوقت قصير، لكنه تحدث وأسهب في الحديث، وفي النهاية صادروه.
كان حديثه «الممنوع» ختام سلسلة من الحلقات حملت عنواناً من كلمة واحدة: «الأستاذ» أعدها الكاتبان الروائيان جمال الغيطاني ويوسف القعيد، وكلاهما قريب منه بالحوار المتصل والود الإنساني.
وكانت «دريم» قد ألحت أن يظهر في آخر احتفاليتها ببلوغه الثمانين ليلقي كلمة بالطريقة التي يريد والوقت الذي يطلب.
باقتضاب لم يتجاوز ربع الساعة سجل احترامه «لكل الذين شاركوا في الاحتفال بعيد ميلادي الثمانين».
«انحني أمام الناس مستأذناً في الانصراف.. أن انصرف احتراماً لنفسي ــ فما يحدث الآن في مصر لا يليق، وما يحدث الآن في المنطقة تجاوز كل منطق. أزمة المصداقية باتت متجاوزة كل شيء والصورة العامة مقلقة».
طوال حديث الـ ١٤٠ دقيقة أكد أكثر من مرة: «أنا بره» ــ خارج المسرحين السياسي والصحافي.
من الشكر بدأ، وبما يشبه الوصية انتهى.
بطبائع الأمور تطرق إلى الأوضاع العربية المستجدة في سوريا والعراق وفلسطين.
ماذا قال بالضبط؟
لم يُرد أن يتكلم و«النسخة الماستر» فرضت عليها إجراءات وقيود مشددة لضمان عدم تسريبها.
أخبرني المهندس أسامة الشيخ، المشرف على «دريم» في ذلك الوقت ورئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون تالياً، أنه ذهب بنفس اليوم إلى برقاش حاملاً نسخة من الحلقة الممنوعة كي يتصرف بالطريقة التي يراها.
لكنه لم يكن مستعداً لاستعادة حرف واحد مما قال فـ«للحديث روحه».
اعتبر الصفحة كلها أغلقت وانتهى أمرها.
سجل مخاوفه على المستقبل ولم يخطر بباله، وهو يتدفق بالحديث، أن الخوف من مخاوفه سوف يصادر رسالته.
بدت القصة كلها ملبدة بغيوم السياسة والعوالم الخفية.
قبل خمسة أيام، في ظهر أحد، دخل الساعة الحادية عشرة إلى قاعة أفراح في فندق «هيلتون دريم» بالقرب من مدينة الإنتاج الإعلامي.
القاعة الفسيحة تحوّلت إلى استوديو حديث حتى يكون التسجيل بعيداً عن أي أذان تسمع وعيون ترى.
غير أن كل الآذان كانت منصتة وكل العيون كانت مفتوحة، على الهواء مباشرة.
كانت تلك مسألة مستغربة، فقد دأبت المحطة على بث برامجها، بما فيها أحاديث هيكل من استوديوهاتها في مدينة الإنتاج الإعلامي القريبة.
لماذا استوديو خاص لتسجيل خاص لمرة واحدة فقط؟
التحوط الزائد لفت الأنظار إلى أن هناك ما قد يقوله مزعجاً بعد محاضرته قبل عام واحد في الجامعة الأميركية، التي تطرق فيها إلى مستقبل نظام الحكم في مصر واحتمالات توريثه من الأب إلى نجله الأصغر وبثتها «دريم» على الهواء مباشرة.
توسط الاستوديو الجديد مكتب مريح جلس عليه، وقد كانت هناك فكرة أن يسجل حديثه جالساً على «فوتيل» كأنه في صالون، لكنه اعتذر فهو متعود على الكتابة والحديث من خلف مكتب عمل.
دارت الكاميرات وبدأت دراما تسجيل «وصية الأستاذ».
استلفت نظره، وهو يتحدث أمام الكاميرات، أن أحد العاملين المقربين من رجل الأعمال أحمد بهجت صاحب المحطة، دخل الاستوديو ومال عليه برسالة عاجلة.
غادر بهجت الاستوديو لربع ساعة، وعاد ليتابع حديث «الأستاذ»، لكن القرار كان قد اتخذ ــ ممنوع بث هذا الشريط كاملاً.
لا أحد سوى بهجت يعرف مشاعره في تلك الدقائق الثقيلة، التي جلس خلالها يستمع للأستاذ، وهو يدرك وحده أن الحديث لن يبث أبداً كما هو.
عندما تستضيف قناة فضائية رجلاً كلمته مسموعة ويستطيع أن يتحمل مسؤوليتها، فلا يصح أن تحجب حرفاً واحداً مما يقول.
تلك من قواعد أي عمل إعلامي على شيء من الاحترام والمصداقية.
غير أن القصة لم تكن مسألة قواعد تحترم بقدر ما كانت مسألة سلطة يزعجها كلامه.
ما إن انتهى من حديثه المسهب بما يشبه الوصية اقترب منه بهجت قائلاً: «ممكن نتكلم شوية».
لمدة نصف ساعة اختلى الرجلان على جانب في قاعة الطعام الرئيسية بالفندق.
بهجت صرح بأنه ــ وحده ــ من اتخذ قرار عدم بث الحديث المسجل، وأن «الأستاذ» وافقه على قراره.
وهيكل امتنع عن أي تعليق وكانت العبارة الوحيدة التي نشرت على لسانه: «لا أريد أن أحرج أحداً».
غير أنه أخبرني بالقصة الكاملة، بأدق تفاصيلها وأجوائها، كأني كنت موجوداً في المكان، وقد نشرتها دون أن أنسبها إليه.
لم يكن يريد أن يسبب أي متاعب لصاحب المحطة، ولا يريد أن يضربه أحد «في وجع» إذا ما بث شريط يتحمل وحده مسؤوليته.
كان بهجت هو مصدر القرار، لكنه لم يكن صاحبه، وإلا لما ألح على هيكل بالحديث، وإلا لما دفع تكاليف باهظة لاستوديو خاص لرجل واحد لمرة واحدة، وإلا لما استأذن الأستاذ في المنع وطلب مشورته في الخروج من الورطة؟!
وزير الإعلام صفوت الشريف نفى بصورة قاطعة أن تكون هناك أي تدخلات من الدولة لمنع بث هذا الحديث.
لم يكن أحد، لا في وزارة الإعلام ولا في غيرها من الوزارات والهيئات، بوسعه أن يتحدى صاحب القرار، تلك الشخصية النافذة في البيت الرئاسي، التي كانت على الطرف الآخر من هاتف أرضي عندما هرع بهجت للخروج من الاستوديو.
كان سيف القروض مشرعاً.
هناك فارق جوهري بين الحق العام في حساب أي تجاوزات مالية لأي رجل أعمال، واستخدام القروض لأسباب سياسية تطويعاً للفضائيات الخاصة.
في حوار نصف الساعة عرض بهجت أزمته ومخاوفه.
قال هيكل: «افعل ما تراه مناسباً لك».
طُرحت عليه ثلاثة بدائل.
الأول: بث ربع الساعة الأولى من الحديث ــ فقط ــ والمعنى أن يقتصر البث على كلمات الشكر والتقدير للذين أسهموا من الشخصيات العامة والإعلامية في احتفالية عيد ميلاده الثمانين.
دون تردد اعتذر عن عدم قبول هذا البديل، فهو غير معقول، وربما يتناقض مع صورته العامة التي بناها بدأب على مدى عمره المهني الطويل في قلب عواصف الصحافة والسياسة وتقلبات الحكم ببلادنا.
الثاني: اعتذار لأسباب صحية، ولم يكن هذا الاعتذار مقبولاً، فهو قد سجل الحديث بالفعل، محترماً الوعد الذي قطعته المحطة للمشاهدين، وليس بوسعه إنسانياً وأخلاقياً أن يوافق على ترويج اعتذار غير صحيح، وربما لم يكن في وسعه أن يساعد الذين أصدروا الأوامر بمنع بث الشريط من الهرب بجريمة المنع وجسمها «الشريط المصادر» دون عقاب من تاريخ، أو علم من رأي عام.
الثالث: حذف من ٣٥ إلى ٤٥ دقيقة من الشريط، الفكرة ــ في البداية ــ بدت مخرجاً معقولاً من «ورطة دريم». غير أن هيكل قال إن الحذف سوف يخل بسياق وروح الحديث، وأنهى «حديث البدائل» بعبارة واحدة: إما أن يبث كله أو يمنع كله.
.. ولم يبث أبداً.

(٣)


لم تكن تلك هي الواقعة الوحيدة التي تحوّلت فيها «دريم» وصاحبها والمشرفون عليها إلى تبة ضرب نار.
قبل عام ــ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٠٢ ــ نقلت نفس الفضائية على الهواء مباشرة من الجامعة الأميركية بالقاهرة المحاضرة التي ألقاها بمناسبة مرور نصف قرن على ثورة ٢٣ يوليو.
لم يكن أحد يعرف ما الذي سوف يقوله، ولا من أي زاوية سوف ينظر إلى تاريخ تقادمت عليه العقود.
لم يكن بوسع «دريم» أن تتوقع دخوله الكامل في دائرة المحظورات واختراق كل ما جرى التعارف عليه كـ»خطوط حمراء».
ولا كان أحد خارجها يتوقع أن تدوي مفاجأته على النحو الذي جرى.
سألته عن خطته للمحاضرة المرتقبة، وكان يضع أوراقاً أمامه.
قال: «ما رأيك أنت؟».. «ما نقاط التركيز التي تتصور أن الرأي العام ينتظرها؟»
أشرت إلى محطات ومعارك وأسئلة تحتاج إلى إجابات.
لم يخطر ببالي لوهلة واحدة، وهو يستمع مبتسماً، أنه سوف ينحي الماضي كله ويناقش مستقبل نظام الحكم في مصر متطرقاً إلى «توريث الحكم» من الأب إلى نجله الأصغر.
كانت جريدة «العربي» قد بدأت منذ حزيران/يونيو سنة ٢٠٠٠ حملة متصلة ومتصاعدة ضد مشروع «التوريث».
لم يتوقف الحديث بيننا في ذلك الملف الحساس، ولعله أراد أن تكون المفاجأة كاملة.
استقر يقينه على واحدة من أهم معاركه، وقرر أن يدخلها أياً كانت العواقب.
عندما دخل ساحتها أضفى مصداقية على الذين سبقوه وتحملوا مسؤولية التنبيه المبكر.
كان تأثير ما قاله مدوياً في المجال العام.
لم تكن قطاعات واسعة من الرأي العام المصري وقتها تصدق أن مشروع «التوريث» ممكن، أو أنه موجود أصلاً.
بعد محاضرته في الجامعة الأميركية، أخذت الحملة أبعاداً جديدة أذنت باتساع المعارضة الصحافية أولاً والسياسية ثانياً إلى حدود أفضت في النهاية إلى ثورة «يناير».
قبل تلك المحاضرة المدوية أطلق أعيرة صحافية في الهواء كأنها تمهيد لما انتواه: «الأنظمة طالت أعمارها بأكثر مما هو داع» ــ نيسان/إبريل ٢٠٠٢.
وبعد خمس سنوات ــ تموز/يوليو ٢٠٠٧ ــ قال: «لو عاد عبدالناصر الآن لتبنى حملة العربي الطويلة ضد الاستبداد والتوريث».
عندما كان يفجر مفاجأته المدوية في الجامعة الأميركية، و«دريم» تنقلها إلى كل بيت، لم يكن هناك أحد من المسؤولين الكبار بالقاهرة.
كان الرئيس حسني مبارك قد صحبهم معه إلى الإسكندرية لافتتاح مكتبتها الشهيرة في حضور ملوك ورؤساء أوروبا، بما ذكر باحتفالات افتتاح قناة السويس على عهد الخديوي إسماعيل.
أذاعت «دريم» المحاضرة مرتين، وقبل الثالثة تنبهت سلطات الدولة لخطورتها، فأمرت بمنع بثها.
اعتذرت «دريم» بزعم أن عدم البث أسبابه فنية.
رغم عدم البث تصاعدت حملات التحريض على «دريم»، وشاركت فيها صحف وأحزاب يفترض أنها معارضة بتحريض مباشر من بعض السلطات في الدولة.

في عام 2002، اضطرت ثلاث صحف، بطلب مباشر من وزير الإعلام صفوت الشريف، إلى عدم نشر محاضرة الجامعة الأميركية... التي قال فيها: دعوا المستقبل يتحرك بحرية، ويمر بأمان، ويبدأ الآن

خلال الأزمة طُلب من «دريم»، «تعديل المسار» لتجاوز بعض برامجها «خط الإعلام المصري».
وخلال الأزمة اضطرت ثلاث صحف حزبية وخاصة ــ بطلب مباشر من وزير الإعلام صفوت الشريف ــ عدم نشر محاضرة الجامعة الأميركية بعدما كاد يدفع بها إلى المطابع.
كان الطلب واضحاً وصريحاً فـ»الرئيس سوف يغضب ويحمّل من ينشر المسؤولية».
وانفردت «العربي» وحدها بنشر المحاضرة المدوية التي دخلت في المحظور.
«إننا أمام أربع صور حول كل واحدة منها إطار يحدد ويفصل، والألبوم من أوله لآخره ناطق بأن تلك الخمسين سنة لم تكن عمراً تدفق طبيعياً مرحلة بعد أخرى، وإنما بكل الشواهد ــ عصور متعددة ــ اختلفت ــ وتناقضت ــ وفي بعض الأحيان تصادمت».
كانت الصور لأربعة رجال هم: محمد نجيب، وجمال عبدالناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك.
«إن الغد لا يقدر ــ ولا يملك أن ينتظر صورة خامسة تزيد على ألبوم الصور السابقة، لأن تحديات زمان جديد لا تحتمل استراتيجية الانتظار وسياسة التأجيل».
«المطلوب ليس نقلة من رجل إلى رجل، وإنما من عصر إلى عصر ــ أي من شرعية مرحلة الانتقال إلى الشرعية الدائمة، وبالتالي: من الفرض إلى الدستور ومن الصورة إلى القانون».
«من فضلكم دعوا المستقبل يتحرك بحرية، ودعوا المستقبل يمر بأمان، ودعوا المستقبل يبدأ الآن قبل أن يفوت الأوان».
هكذا كانت رسالته في تلك المحاضرة التي حملت اسم «المستقبل الآن».
وهكذا تبدت حساسيات إضافية حجبت العقول أن تفكر والصدور أن تستوعب، وكانت النتائج بالنهاية محتمة.