«انظروا ماذا حصل هنا منذ تشرين الثاني الماضي. لقد استضافت باريس أسبوع الموضة، ونظّمت الماراثون من دون أي حادثة تذكر. انظروا إلى الباريسيين كيف عادوا إلى حياتهم الطبيعية بعد كل الذي شهدوه في ذاك الشهر.


لقد عادوا إلى المقاهي والساحات. هم استعادوا ثقتهم، وهذا ما نريد أن نتقاسمه مع الوافدين إلينا في كأس أوروبا». بهذه الكلمات توجّه نائب رئيس عمدة باريس جان فرنسوا مارتينس، قبل أشهر إلى القلقين من الوضع الأمني في فرنسا قبل انطلاق «يورو 2016»، داعياً إياهم للقدوم إلى البلاد وعدم القلق من أي شيء.

لكن فات مارتينس الكثير، لأن البحث في يوميات التحضيرات للعرس القاري تكشف أشياء وأشياء لا شك في أنها إذا حصلت ستكون أشبه بالكارثة الأمنية بالنسبة إلى المكلفين تنظيم كأس أوروبا.

الأمن أصلاً أطلّ من جديد وانفضح بنحو كبير باعتراف المسؤولين، وعلى رأسهم وزير الداخلية الفرنسي برنار كازونوف، وذلك عقب المباراة النهائية لكأس فرنسا التي أُجريت السبت الماضي بين باريس سان جيرمان ومرسيليا على ملعب «استاد دو فرانس»، وهو الملعب الأساسي للبطولة الأوروبية الذي سيستضيف سبع مباريات. والفشل الأمني حصل رغم تقليص عدد نقاط الدخول إلى الملعب من 24 إلى 4، ورغم استحداث ثلاث نقاط لتفتيش المتفرجين، إذ أدخل هؤلاء كل ما طاب لهم من مفرقعات نارية وزجاجات وأدوات غير مسموح بها، فسقط الأمن الفرنسي بالضربة القاضية في الاختبار الجديّ الأول له على الملعب الذي حصلت في محيطه الاعتداءات الإرهابية أواخر العام الماضي.



فشل الأمن في اختباره خلال نهائي كأس فرنسا السبت الماضي




لكن لا يهمّ، لأن الخطة الأمنية الحقيقية ستكون أهم بكثير عند انطلاق البطولة وحتى قبلها، وخصوصاً في باريس التي ستحتضن 12 مباراة. فالمهم اليوم ما تعرفه فرنسا حالياً من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وما يمكن أن تعرفه من ارتدادات مرتبطة مباشرة بهذه المشكلات.

وهنا الحديث عن الأزمة البترولية التي ضربت محطات تعبئة الوقود في البلاد واصطدامها بمستودعات النفط، ما جعل التقارير تتحدث عن توقف نحو 1600 محطة حول البلاد عن العمل بسبب افتقادها للمواد البترولية أو وصولها إلى مرحلة الشحّ. لكن لماذا قد تسبّب هذه المشكلة أزمة للبطولة؟

نحن نتحدث الآن عن أوروبا حيث الحدود المفتوحة بين دولها، وحيث الالتصاق الجغرافي الواسع بين دولٍ عدة محيطة بفرنسا، وبالتالي إن قسماً كبيراً من المشجعين القادمين لمؤازرة منتخباتهم الوطنية سيأتي عبر السيارات. وهنا تكمن المشكلة، لأنه في حال عدم حلّها في الأسبوعين المقبلين، فإن الآلاف سيعدلون عن فكرة القدوم إلى فرنسا، إذ إنهم سيتخيّلون طوابير السيارات التي ستكون منتظرة عند كل محطة لملء خزاناتها بهدف التنقل بين مدينة وأخرى لمتابعة المباريات المتوقع أن يحضرها في الملاعب أكثر من 2.5 مليون شخص، وهو عدد البطاقات التي باعها الاتحاد الأوروبي للعبة.

مشكلة ستكون بمثابة الكابوس لأولئك القادمين إلى فرنسا، وخصوصاً إذا ما أقفلت المحطات أبوابها بوجههم لعجزها عن تلبية حاجاتهم. لكن الكابوس الأكبر سيكون للقيّمين على البطولة الذين قد يواجهون مشكلة أكبر ترتبط بحقوق يطالب بها عمال في قطاعات مختلفة، وقد دعا بعضهم إلى تظاهرات قبل وخلال «يورو 2016»، وجاهروا علناً بأن حقوق العمال اهم من كرة القدم، في مشهدٍ شبيه بما عرفته البرازيل عشية وخلال استضافتها كأس العالم 2014، ما خلق توتراً رهيباً في البلاد وارباكاً لحكومة الرئيسة السابقة ديلما روسيف.

لكن ماذا لو استغنى القادمون عن فكرة القدوم بسياراتهم الخاصة والتحرك عبر وسائل النقل العامة في فرنسا؟

هنا المشكلة قد تكون أكبر، لأن أزمة أخرى تلوح في الأفق وترتبط بسكك الحديد، حيث رفعت نقابة العمال الخاصة بها الصوت عالياً مطالبةً بحقوقها، وكذلك فعلت نظيرتها المرتبطة بالشركة المشغّلة لهذه المصلحة، داعيةً إلى اعتصامات وتظاهرات للحصول على حقوقٍ وظروف عمل أفضل.

بطبيعة الحال، تعلم فرنسا معنى اعتراضات من هذا النوع، وهي التي عرفت إضراباً قاسياً لمدة 10 أيام عشية استضافتها مونديال 1998، وكان خلفه قادة أسطول شركة «Air France» للطيران، ما سبّب مشكلة في حركة الملاحة وإلغاء العديد من الرحلات. وهذه المشكلة أصلاً قد تتكرر مع استمرار هؤلاء في المطالبة بعدم حصول أي اقتطاع من رواتبهم، وهي المسألة التي جعلتهم يضربون عن العمل في صيف 2014.

إذاً، كل السبل تقريباً ستكون مقطوعة أمام زائري البلاد من محبي كرة القدم. ورغم طمأنات الحكومة الفرنسية، فإن الدعوات الطلابية والنقابية لإطلاق تظاهرات يومية ابتداءً من 1 حزيران المقبل، أي قبل 9 أيام على انطلاق البطولة التي تستمر حتى 10 تموز، لا شك في أنها ستمثل الخطر الأكبر، وخصوصاً أنها ستشغل الأمن الفرنسي عن الهدف الأسمى المتمثل بالتصدي لأي محاولة تخريب إرهابية، وهو ما يحتاج إلى كل الجهود الممكنة وإلى جهودٍ مضاعفة أيضاً.