صعدة | لم تكن الحروب التي شنت على جماعة «أنصار الله» بدءاً من الحرب الأولى عام 2004، إلا تتويجاً لسلسلة من الانتهاكات والمضايقات التي رافقت الحركة منذ مرحلة ما قبل تأسيسها على يد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي يوم كانت تعرف باسم حركة «الشباب المؤمن». وهي حركة تأسست لمقاومة المشروع الأميركي في اليمن والمنطقة، ولم تُغفل في أدبياتها ضرورة تحصين الوضع الداخلي وترتيبه كشرط للنجاح في الصراع الحضاري مع المشاريع الاستعمارية، وفقاً لرؤية قرآنية.
عقب أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، بدأ الحوثي كمن يبحر عكس التيار حين أعلن رفع «الصرخة» (الموت لأميركا، الموت لإسرائيل) كشعار لمشروعه النهضوي، موجهاً الناس لتفعيل سلاح المقاطعة الاقتصادية، الأمر الذي أثار غضب السلطة فباشرت بقمع المنتمين لـ «الفكر الحوثي» والزج بالمئات منهم في السجون.
القرار بإشراك
«أنصار الله» في العملية السياسية كان هدفه هزيمة الجماعة

ولم يكن مقتل حسين الحوثي سوى البداية القوية للحركة الفتية الآتية من جبال الشمال بمشروعها الجاذب للشعب والمُحرِج للسلطة أمام الغرب، فسرعان ما أماطت الحروب التالية اللثام عن شخصية قيادية شابة صلبة وذات كاريزما قوية، وهو عبد الملك الحوثي. ثم وقعت الحروب الست خلال ست سنوات، بدّدَت السلطة فيها المليارات وبدت كمن يُحارب بالوكالة عن الخارج، أما بالنسبة إلى «أنصار الله» فقد كانت حروباً تقوّيهم ولا تقضي عليهم. أما الخارج المتمثل خصوصاً بالسعودية، فقد قرر أن يدخل مباشرة في آخر حروب السلطة الرسمية ضد الجماعة، لكنه قرار لم يغير من موازين الحرب بقدر ما جذب أنظار الخارج إليهم وأكسبهم ببيئة شعبية حاضنة وداعمة.
وحين انتهت الحرب السادسة، آخر الحروب التي شارك فيها الجيش ضد «أنصار الله»، بدأت سلسلة حروب انتقامية متفرقة فجّرتها الجماعات التكفيرية («القاعدة»، «أنصار الشريعة»، و»داعش») بدعم مباشر من السعودية في محاولة لوقف تمدد «أنصار الله» السريع، ولكن في كل مرة كانت الرياح تأتي بما لا يشتهي آل سعود.
اعتقد الكثيرون أن بالإمكان جرّ «أنصار الله» إلى ساحة السياسة حيث سيتمكنون من هزمهم. من هنا جاء القرار بإشراكهم في العملية السياسية، وخصوصاً بعدما أثبتوا حضورهم الفعّال ووجودهم الشعبي اللافت في معظم ساحات ثورة «11 فبراير» عام 2011 التي أطاحت نظام صالح. وتسارعت الأحداث وتراكمت الانقسامات بفعل التدخلات الخارجية، وأبرزها «المبادرة الخليجية» التي مثلت مخرجاً لمراكز النفوذ المنقسمة على نفسها، بالرغم من أنها قوبلت برفض معظم مكونات الثورة، لكنها فُرضت على مسار الثورة كأمر واقع.
وفيما كانت حرب التكفيريين تدور في منطقة دماج في صعدة بواسطة مقاتلين أجانب جُمّعوا من أكثر من ثلاثين دولة، كعقاب «تأديبي» ضاغط يمارسه الخليج بحق أنصارالله الرافضين كلياً للمبادرة الخليجية، فوجئ الجميع بإعلان «أنصار الله» قبولهم المشاركة في الحوار الوطني الشامل، مسجلين بذلك أول انتصار سياسي يتوج انتصاراتهم العسكرية المتتالية ضد الجماعات التكفيرية.
لم يخف مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن، جمال بن عمر، إعجابه وصدمته بالأطروحات السياسية التي تقدّم بها ممثلو «أنصار الله» إلى طاولة الحوار عبر ممثليهم، واصفاً إياها بالناضجة والمرنة والواقعية. غير أن أطرافاً شريكة في الحوار لم يرقها الأمر، فأبقت باب الحوار مفتوحاً مع الخصم الصاعد، لكنها في المقابل لم تُغمد سيف الحرب في وجه «أنصار الله» عبر تحالفها مع «القاعدة» في الداخل وتآمرها مع الخليجيين في الخارج، ليبلغ المشهد ذروته بإعلان الحصار المطبق على محافظة صعدة من كل الجهات كرد فعل على احتراق ورقة «دماج وكتاف»، وهو إعلان رعته رسمياً وسائل إعلام خليجية مضفيةً عليه صبغة مذهبية.
وبحسٍّ يقدّر حساسية الوضع وخطورة إغراق اليمن في صراعات مذهبية، راهنت «أنصار الله» على الداخل عبر إيجاد وعيِ شعبي يوازي الماكينة الإعلامية الضخمة للإخوان في اليمن (حزب الإصلاح) ويُعري أهدافها الحقيقية، ونجحت بذلك بالتزامن مع سقوط المشروع الإخواني إقليمياً في إجهاض المؤامرة.
لكن الأمور كادت أن تعود إلى المربع الأول حين حاول «الإصلاح» المستحوذ على الحكومة الانتقالية إقحام الجيش في حروب رسمية ضد «أنصار الله»، غير مكتفٍ بإبعادهم عن السلطة وإقصائهم عن الحكم كلياً. ويعبر عن هذه المرحلة، علي العماد، عضو المكتب السياسي لـ «أنصارالله» في منشور له على صفحته الرسمية بالقول: «جميعنا يعلم أن مكون أنصار الله كان مستهدفاً من كل مؤسسات السلطة - مدنية وعسكرية - فقد استهدفوا من الخدمة المدنية والإعلام والجيش والأمن والاستخبارات والاوقاف والتربية وغيرها من المؤسسات؛ بل واستهدفوا أيضاً حتى من الجماعات المتطرفة بمباركة السلطة واجهزة الاستخبارات الأميركية كالقاعدة وأخواتها، ومن ناحية أخرى كلنا يعلم كيف حرص شركاء النظام على الدفع بأنصار الله دائماً إلى أطر خارج السلطة ومؤسساتها قبل ثورة فبراير وبعد الحوار واتفاق السلم وبإمكان الجميع ملاحظة ذلك من خلال الخطاب الاعلامي للإصلاح مثلاً والسعودية وقطر». كل هذا على مرأى ومسمع من الشارع اليمني، الذي بقي فترة يراقب الأحداث ويحاول تعديل اعوجاج الساسة عبر تظاهرات كبرى، جابت شوارع كل المحافظات اليمنية، ومثّلت حكماً على فساد السلطة الجديدة، مانحةً التفويض لقيادة «أنصار الله» في حسم الأمور واتخاذ إجراءات تفضي لقطع يد الخارج ومحاربة الفساد في الداخل. وهي خطوة مفصلية يُسميها البعض مرحلة التحرر الوطني، لكنها جوبهت بصلافة الموقف السعودي المعتاد الحكم والتحكم في مصير جاره الفقير، معتقداً أن بإمكانه تعويض خسارته في سوريا أو العراق عبر تدمير اليمن بهدف إخضاعه، متجاهلاً أن كرامة اليمنيين لا تُشترى بمال النفط، ولا ترهبهم غارات طائراتهم التي تبدو كمن تحرث الأرض ولا تحصد إلا الخيبة.