منذ أن بدأ الإنسان خوض مسار السّيطرة على الطّبيعة وتسخيرها لخدمته بغية تسهيل حياته، وتلبية متطلّبات وكماليات تحوّلت تدريجيّاً إلى أساسيّات، وهو يدفع ثمناً لكلّ «سيطرة» وعبث بالطبيعة. من الاحتباس الحراري مروراً بالوباء العالمي الذي شلّ الكوكب وصولاً إلى أمراض «العالم الحديث» التي تكاد تكون معدومة في المجتمعات القبليّة التقليدية التي تعيش في الغابات، كالسكّري والضغط والأزمات القلبية... كل هذا وأكثر هو ثمنٌ ندفعه لقاء مدن إسمنتيّة ضخمة ووسائل نقل متطوّرة وعادات غذائيّة جديدة وصناعات حديثة مميّزة وغيرها من تفاصيل وبديهيّات عالمنا الحديث. استناداً إلى نتائج أبحاث عالمة الأوبئة شانا سوان، وفريقها البحثي في مستشفى ماونت سيناي في نيويورك، فإنّ إحدى «الفواتير» الّتي ندفعها اليوم هي انخفاض معدّلات الخصوبة حول العالم.
في أواخر عام 2017، نشرت سوان وفريقها نتائج دراسة إحصائيّة أجروها على مدى 40 عاماً (بين عامَي 1973 و 2011)، أظهرت انخفاضاً بنسبة 59% في معدّلات الخصوبة لدى الرجال المتمثّلة بمعدّل عدد الحيوانات المنويّة في السائل المنوي لدى عيّنة منهم في أميركا الشمالية، أوروبا، أستراليا، ونيوزيلندا. وبالرّغم من أنّ هذه البيانات تمّ جمعها من دول متطوّرة، فإنّ سوان أشارت، في مقابلة لها مع فريدي سايرز عبر «lockdown TV»، إلى أنّ بيانات من البنك الدولي تُظهر انخفاضاً مُماثلاً عالمياً بالرغم من تفاوت معدّلات الإنجاب بين الدول. وتضيف سوان أنّ هناك نتائج مشابهة في ما يخصّ معدّلات الخصوبة لدى النّساء أيضاً.

وفي كتابها «العدّ العكسي»، تعزو سوان سبب هذا التراجع في معدّلات الخصوبة إلى عوامل عديدة ومتنوّعة، تندرج جميعها في إطار التعرّض المستمر للمواد الكيميائية في حياتنا اليومية. وبحسب ما تُظهره مجموعة من الدّراسات، فإنّ هذه المواد ناتجة من بعض أنواع البلاستيك التي تضم مادّة «الفثالات» (phthalates)، ومن التدخين أثناء فترات الحمل أو الطفولة المبكرة، إضافة إلى المبيدات الزراعية ومواد موجودة في بعض المأكولات المُعلّبة.

مسألة الخصوبة عادةً ما تثير الهلع لارتباطها بعناوين حول انقراض البشرية، كما في كتاب «الكوكب الفارغ» لكُلٍّ من عالم الإحصائيّات «داريل بريكر» والصّحافي «جون إبتسون» اللّذين يتوقّعان انخفاض عدد سكّان الأرض مع نهاية القرن الـ21. إلّا أنّ أضرار هذه القائمة الطويلة تتجاوز مسألة الخصوبة والإنجاب. فعلى سبيل المثال، مادّة «التّفلون» موجودة في عدد كبير من أواني الطّهي وحتّى بعض الألبسة مرتبطة بأنواع عديدة من السرطانات وأمراض الدّم إضافةً إلى ارتباطها بتراجع معدّلات الخصوبة.
تعزو سوان سبب التراجع في معدّلات الخصوبة إلى عوامل تندرج جميعها في إطار التعرّض المستمرّ للمواد الكيميائية


لقد اعتدنا، بشكلٍ أو بآخر، على السموم اليومية في خدمات ومميّزات حياتنا وندفع ثمنها صحّتنا وصحّة أبنائنا في كثيرٍ من الأحيان. ولكُلّ هذا «العبث» بالطّبيعة ثمن، أحياناً يكون بسيطاً، وأحياناً أخرى يكون باهظاً أشبه بالخيال كتدمير الكوكب بالاحتباس الحراري. وقرارات العبث هذه كانت في كثير من الأحيان إمّا عن جهلٍ بالمخاطر الحقيقيّة، أو إخفاء لها عندما تبدأ بالظّهور بهدف المُحافظة على الأرباح، كما في فضيحة شركة «دوبونت» ومادّة التّفلون، أو بعض مصانع الوقود التي أخفت على مدى عقود مستندات مهمّة عن تأثير الوقود على البيئة. هذه القرارات قد تكون قد صدرت عن شركات ومؤسّسات ودول مُستعمرة، إلّا أنّ الكوكب كُلّه يدفع ثمن بعض عناصر الحداثة المُريحة اليوم.

لو أُجري استفتاء في الماضي لسُكّان هذا الكوكب حول ما إذا كانوا يفضّلون، مثلاً، استخدام أوعية بلاستيكيّة ذات خصائص ممتازة وجودة عالية تُسهّل عليهم الكثير، في مقابل التضحية بمجموعة من الأمور الصحّية، منها مستوى الخصوبة لديهم، ولدى أبنائهم وأحفادهم لاحقاً... من كان ليختار الـ«تابروير»؟!