في عام 1945، بدأت شركة دوبونت (DuPont) الأميركيّة بإنتاج «تفلون» (Teflon)، وهي المادّة الموجودة في الطّلاء غير اللّاصق على المقالي والأواني وصفائح الكعك. وبسبب خصائصها العازلة والمميّزة، صارت هذه المادّة تُستعمل لاحقاً في صناعة السّيّارات والمركبات، كما دخلت في تصنيع أغراض منزليّة كثيرة كمُستحضرات التّنظيف والأكياس الورقيّة وبعض أنواع الملابس كمعاطف المطر والأحذية.
كانت شركة «دوبونت» آنذاك محطّ ثقة لدى المُجتمع المحلّي في منطقتها. كُلّ من كان يسكن مدينة باركرزبرغ في ولاية ويست فيرجينيا كان إمّا يعمل في «دوبونت»، أو يعرف شخصاً من أسرته أو أصدقائه يعمل في تلك الشّركة، ما جعلها قريبة من وجدان أهل المدينة نظراً إلى كونها مصدر رزق كثيرٍ منهم. إضافةً إلى ذلك، كانت «دوبونت» تُساهم في تحسين الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة لأهالي المنطقة عبر تمويل منح مدرسيّة وجامعيّة لطلّاب المدينة، أو منح مساعدات للمدارس المحلّيّة، إضافةً إلى انخراطها في دعم الكنائس المحلّيّة ومساعدتها على التّطوّر والنّموّ.

في مقابلته ضمن الفيلم الوثائقي «الشّيطان الّذي نعرفه» (The Devil We Know)، يتحدّث الموظّف السّابق لدى «دوبونت» كن وامزلي عن ثقته الكبيرة آنذاك في «دوبونت» والقيّمين عليها، وكيف أنّه كان متيقّناً من أنّهم لم يكونوا ليتركوهم يعملون يوماً واحداً لو علموا بوجود خطر على حياتهم. يقول ذلك بحسرة، ثُمّ يتساءل إن كان دوره آنذاك أشبه بفأر تجارب لا أكثر.

أُصيب وامزلي بسرطان القولون في عمرٍ مُبكّر وخضع لعمليّات جراحيّة وجلسات علاج. لكنّه يرى نفسه محظوظاً أنّه لا يزال على قيد الحياة، فقد مات أغلب زملائه الذين عمل معهم في الشّركة في أعمارٍ مُبكرة بسبب إصابتهم بأنواع مُختلفة من السّرطانات، كما أنّ زميلتين من زملائه أنجبتا أجنّة مُشوّهة. كُلّ هذا يعود إلى التّعرّض لمادّة الـPFOA الموجودة في «تفلون».

عقب تزايد الشّكوك والتّساؤلات حول المخلّفات الّتي كانت ترميها «دوبونت» في النّهر في المنطقة، ومع ارتفاع حوادث موت الحيوانات والقطعان وارتفاع نسب كثيرٍ من الأمراض في مدينة باركرزبرغ، قرّرت مجموعة من سكّان المنطقة رفع دعوى قضائيّة جماعيّة ضدّ الشّركة عام 2001. بعد أخذٍ وردّ لسنوات، قامت الشّركة بتسوية الدّعوى مقابل 343 مليون دولار. ولكن عوضاً عن تقاسم المبلغ فيما بينهم، قام المُدّعون بتمويل دراسة ضخمة، أصبحت الأكبر من نوعها، حول تأثير مادّة الـPFOA الموجودة في «تفلون» على صحّة المُتعرّضين لها. دامت الدّراسة 7 سنوات، وجمعت استبيانات وعيّنات مختبريّة وصحّيّة من أكثر من 70 ألف مُشارك. وجاءت النّتيجة عام 2012 لتُؤكّد الشّكوك الّتي كانت تنمو لسنوات، مُظهرةً ارتباطاً واضحاً بين التّعرّض لهذه المادّة وبين مجموعة من أنواع السّرطانات وأمراض الدّم والغدد وحتّى مُضاعفات الحمل.

توقّفت «دوبونت» عن إنتاج مادّة الـPFOA في منتوجاتها الصّناعيّة عام 2013 مُستبدلةً إيّاها بمادّة أُخرى جديدة. ولكنّ مادّة الـPFOA الّتي أصبحت في ذلك الوقت تقريباً في كلّ منزل وكلّ مؤسّسة حول العالم، تتّسم بما يُسمّى «الثّبات البيولوجي» أو الـbiopersistence، أي أنّ لها خصائص تمنحها ديمومة البقاء لوقتٍ طويلٍ جدّاً. اليوم، حوالى 99% من الأطفال الّذين يولدون على هذا الكوكب الأزرق يحملون في دمائهم هذه المادّة المُسرطنة بنسب متفاوتة.
ولكنّ هذه النّتائج لم تكن واضحة أو موجودة حتّى قبل هذه الدّراسات الّتي أُجريت لاحقاً... أليس كذلك؟ في الواقع، الدّعاوى الّتي رُفعت سمحت للمُدّعين بالوصول إلى مُستندات ووثائق الشّركة منذ تأسيسها.

وفي هذه المُستندات توثيقٌ لأضرار مادّة الـPFOA وارتباطها بتشوّهات الأجنّة في عددٍ من الحيوانات، وخطر الإصابة بعدّة أنواعٍ من السّرطانات في الحيوانات والبشر أيضاً. تعود أولى هذه التّقارير الموجودة في الشّركة، والّتي تُظهر مخاطر هذه المادّة، إلى عام 1961، أي قبل أن توافق الشّركة على التّوقّف عن إنتاجها هذه المادّة بـ52 عاماً، بعد أن أجبرتها «الفضيحة» القانونيّة والعلميّة أمام الملأ على ذلك.

شركة «دوبونت» لم تتفكّك ولم تتوقّف عن العمل، بل ما زالت تُنتج أرباحاً ضخمة كإحدى الشّركات الرّائدة في مجالها. حتّى أنّها أعادت تسويق «الأزمة»، فيذكر موقعها أنّها عملت بشكلٍ مكثّف لاستبدال هذه المادّة بعد أن «اتّضحت أضرارها»، وكيف نجحت في العثور على بديل في وقتٍ قصير. مُدراء الشّركة آنذاك لم يُسجنوا، بل عاشوا أحرار طلقاء، ونجحوا في تأسيس شركة Chemours المُتفرّعة عن الشّركة الأساسيّة، كبداية جديدة أمام الرّأي العام. ولكن، تمّ بالفعل تجزية «دوبونت» من قبل الوكالة الأميركيّة لحماية البيئة (EPA) بسبب مخالفاتها وإخفائها للأدلّة والحقائق على مدى عقودٍ من الزّمن عن وكالات الرّقابة وعن الرّأي العام. حجم هذه الغرامة بلغ 16.5 مليون دولار، أي ما يعادل 0.07% من أرباح الشّركة في سنة واحدة. تختصر سخافة هذه «العقوبة» جملة قالها مؤسّس ورئيس جمعيّة العاملين المعنيّين بالبيئة (Environmental Working Group) كين كوك: «لا أدري كم يجب أن تكون غرامة تلويث البشريّة وتلويث العالم الحيّ... لكنّها بالتّأكيد تفوق هذا المبلغ».

كثيراً ما يخشى الرّأي العام الأدوية واللّقاحات والعلاجات الجديدة، ويُراكم الشّكوك والتّساؤلات حولها كما يحصل اليوم مع لقاحات «كورونا»، رغم أنّ أيّ مُنتج طبّيّ، ولو كان متمّماً غذائيّاً، يجب أن يخضع ويجتاز مجموعة من اختبارات السّلامة الّتي يجب نشرها أمام الملأ، قبل أن تبدأ حتّى التّجارب السّريريّة على البشر، عدا عن استمرار نشر أبحاث الأعراض الجانبيّة بعد البدء باستعمال المُستحضر هذا. إلّا أنّ «الشّيطان الحقيقي» في مكانٍ مختلف. ففي المقلب الآخر، نغفل عن السّموم الحقيقيّة في منازلنا وأدواتنا وأجهزتنا وملابسنا وتفاصيل يوميّاتنا العصريّة.

حتّى الآن، لا يوجد أيّ بروتوكول أو مجموعة من اختبارات السّلامة الّتي يجب أن تجتازها أيّ مادّة أو تركيبة قبل أن تُضاف إلى سلعة صناعيّة تُسوّق لاحقاً للرّأي العام كعنصر أساسيّ ورفيق للأسرة يُسهّل حياة أفرادها. فحتّى إن كان هُنالك من يدعو للتّحقّق من سلامة هذه المواد وضبط استخدامها، فرساميل وشركات وأرباح ضخمة تحول دون الخوض في هذا المسار التّصحيحيّ، الّذي سيكون متأخّراً حتّى وإن بدأ مع انتهائك من قراءة هذا المقال.

اليوم، بحسب معطيات جمعيّة الـEWG الآنفة الذّكر، يوجد أكثر من 80 ألف مادّة أو تركيبة كيميائيّة تستخدم في المجالات الصّناعيّة، أغلبها غير خاضع للتّنظيم ولم يخضع لاختبارات كافية للتّأكّد من سلامة استخدامها. لكنّها موجودة في السّلع الّتي نحبّها ونستخدمها والّتي تُسوّق لنا كأساسيّات في حياتنا، من قبل شركات تُقدّم نفسها بزيّ الحريص على النّاس، والّتي لا تنفكّ تفكّر بحلولٍ لمشاكلهم وهمومهم اليوميّة، كبقع الزّيت على الأواني، بينما تُراكم أرباحها غير آبهةٍ بالأضرار، حتّى وإن وصلت استثماراتها، حرفيّاً، إلى الدّماء.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا