«كان خطف طائرة يجلب تأثيراً أكبر مما لو قتلنا مئات الإسرائيليين في معركة. على مدى عقود، لم يكن الرأي العام العالمي مع الفلسطينيين أو ضدّهم، بل تجاهلنا ببساطة. على الأقل، يتحدث العالم عنا الآن»- جورج حبش.
يزخر معجم المقاومة الفلسطينيّة بمفردات ومفاهيم ثقافيّة خرجت من خصوصيّتها ورمزيّتها الفلسطينيّة إلى الأيقونة، وإلى أن تصبح رمزاً عالمياً، غير مُخصَّص سيميائياً، بل يكفي أن يراه أحدٌ في جزيرة نائية عن العالم ليفهمه كما يفهمه أيُّ فلسطيني.
امتدّ خوف الفلسطينيّين منذ بداية الاستعمار ليصير خوفاً على الهُويّة الفعليّة، هُويّتهم، ما دعا أن يكون وجود الفلسطينيّ بحدّ ذاته، ولذاته، أحد أشكال المقاومة. مفردة مثل «الصمود» راسخة في هذا السياق، إذ تُعَد أحد أشكال المقاومة الرمزيّة، وأحد أنواع القوة استناداً إلى المقاومة البنّاءة الضروريّة والمُنتجة. هذا «الصمود» نفسه استدعى مفرداتٍ جديدةً في معجم المقاومة ظهرت وفقاً لشرطها التاريخيّ، بما أنّ تاريخ المقاومة هو جزءٌ من التاريخ الاجتماعيّ الفلسطينيّ، ومرتبطٌ بالتحوّلات التي تطرأ فيه، كذلك فإنّ المفردات تتداخل، ولها إرهاصات قديمة تعود إلى زمن الاستعمار البريطاني، فالرسالة التي تركها الشهداء الثلاثة عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي قبل إعدامهم في 17 حزيران 1930، لا يمكن فصلها عن مفردات نشأت فيما بعد في معجم المقاومة مثل: «الفدائي» «الاستشهادي».

الفدائي، الشهيد، الاستشهادي
سردُ تاريخ لشخصية المقاوم الفلسطينيّ والتطوّرات التي طرأت عليها هو سردٌ مطوّل جداً، مع ذلك، حاول إيريك سكاريه في دراسته عن «المقاومة الفلسطينية في العصر الرقمي» أن يفعل ذلك.
عام 1955، بدأ اللاجئون الفلسطينيون بتنظيم أنفسهم في وحدات مقاتلة مثل الكوماندوس (نشرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية وثيقة للشهيد خليل الوزير، أبو جهاد، يقول فيها إنّ البدايات كانت في غزة عام 1954). قاد أبو جهاد أول خلية فدائية في غزة وهو في التاسعة عشرة من عمره، وكانت هذه الخلية مسؤولة عن تفجير خزان زوهر في شباط 1955.

(رسم: نهاد علم الدين)

كان هذا بداية لحقبة جديدة من المقاومة والحملات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، باعتبار الكفاح المسلَّح الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين. العمليات التي نُفِّذَت آنذاك كانت تسبِّب موت المقاتل، أي إنّ المُقدِم عليها كان يعرف أنه لن يعود. ارتبطت مفردة «الفدائي» ذلك الوقت بهذا القبول للموت، أي: «مَن يضحِّي بنَفْسه، مَن يقدِّم نَفْسَه طَوعاً للقِيام بمهمَّة خَطِرة لا يُرجى الرُّجوع منها». والفدائيون، بالنسبة إلى نزار قباني، «قبلهم، لم يكن هنالك قبل/ ابتداء التاريخ من يوم جاؤوا». والفدائي، كما يقول إلياس خوري، يحوّل تجربته النضالية إلى فعل ثقافي، تماماً كما فعل باسل الأعرج الذي حوّل موقعه كمثقف إلى فعل نضالي، وزكريا الزبيدي مثله.
خلال هذه الفترة، ابتدعت المقاومة الفلسطينية عدداً من المفاهيم الثقافية، بدايةً من الفدائي كرمز، والكلاشن (الكلاشينكوف)، الأمر الذي جعل رمزية «الفدائي» تصبح فكرة ثابتة، في رؤية علمانية قومية، أو علمانية اشتراكية عربية.
يشير ناصر أبو فرحة، عالم الأنثروبولوجيا الفلسطيني، أنه على الرغم من أنّ الحملات العسكرية كانت من أعمال التضحية «لا يُرجى الرجوع منها»، لكنها لم تشمل بالضرورة البعد الديني الذي سوف تشمله فيما بعد.
مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر1987، غيّرت المقاومة الفلسطينيّة الخطاب والبلاغة والتكتيكات. استدعى ظهور البنية الفوقيّة الدينيّة للمقاومة مفردات جديدة في معجمها: من الفدائي الذي كان يضحّي بنفسه كعامل مستقل، انتقلت المقاومة إلى الشهيد الفلسطيني، في إطار بعدٍ ديني، وكشهيد بسبب قوى قمعية من الخارج. كان الفلسطينيّون يستشهدون بسبب قوة عسكرية متفوقة وجيش قمعي في سبيل عملٍ مثل رمي الحجارة على دبابة. هذا التغيير، هو نفسه، طرأ في حركة المقاومة والشعب، إذ تبينت ضرورة التركيز على المجتمع الدولي. وعليه، لم يكن الشهيد مجرد بطل وطني فلسطيني ورمز، بل كان شخصاً، ارتقى بهوية وصفة الضحية، بحيث لم يعد العالم يستطيع تجاهلها.
كان التجسيد الأول للانتفاضة قبل كل شيء عصياناً مدنياً ومقاومة شعبية من خلال الإضرابات العامة والمقاطعة والكتابة على الجدران ورمي الحجارة. أدواتها: حجر، زجاجة مولوتوف، كوشوك مشتعل، ومقليعة (نقّيفة). يلخّص مروان درويش وأندرو رغبي في دراستهما لتاريخ المقاومة الشعبية الفلسطينية، الانتفاضةَ الأولى في أنها مقاومة رمزية وانفعالية وهجومية ودفاعية وبنّاءة.
أما في الانتفاضة الثانية، التي تمّت عسكرتها، فقد برز تغيّر واضح في سرديّة عنصر المقاومة: من شهيد في الانتفاضة الأولى إلى طالب الشهادة «الاستشهادي». يصف ناصر أبو فرحة في دراسته عن الانتحاريين الفلسطينيين أنهم «عنف مقلّد»، ومحاولة «محاكاة» العنف نفسه، وخرق الوضع الطبيعي الذي شعر به الفلسطينيون في ظل الاحتلال. ما يعني أنّ انعدام الأمن عند الفلسطينيين تتم مواجهته بإفقاد المستوطنين أمنهم.
تزامن الانتفاضة مع هجمات 2001، وطّد سرديّة الشرق الجديد الذي يعد «إسرائيل» جزءاً من العالم الغربي المتحضر ضد جحافل وحشية من المسلمين. ونشأ خطاب جديد لشارون وقتها مفاده أنّ المقاومة الفلسطينية لا تختلف عن وسائل الإرهاب التي يستخدمها بن لادن، وأنّ «مكافحة الإرهاب هو نضال دولي للعالم الحر ضد قوى الظلام التي تسعى لتدمير حريتنا وطريقتنا في الحياة». الوتر نفسه الذي يلعب النتن ياهو وأفيخاي أدرعي عليه اليوم، لكن هذه المرة بدل بن لادن «داعش»، إلّا أنّ كثيرين من «العالم الغربي» عرفوا «إسرائيل» على حقيقتها، بعيداً من سرديّة 2001.
بعد الفدائي والشهيد والاستشهادي، سرديةٌ جديدة بدأت في السابع من أكتوبر هذا العام، سردية المقاومة التي تطير، والتي تملك صواريخها، وتستطيع أن تخرج عن حدودها، وتأسر العدو. التطور الذي طرأ على شخصية المقاوم الفلسطيني، برز في السابع من أكتوبر، واستدعى وجلب معه مفرداتٍ ورموزاً جديدة إلى معجم المقاومة الفلسطينية، إشارات ومفردات لغوية، منطوقة، ورموز صوَريّة. كلُّ الحقل الدلالي الجديد، بأمل بعض مفرداته مثل «المسافة صفر» «ولعت»، وحسرة العالم كلّه بكلمة وائل الدحدوح «معلِش»، إنما يقوم على شخصية جديدة، فيها قيامة لمستقبل جديد، مكلَّل بآلاف الشهداء.

المثلث الأحمر
وضع أبو علي محمد بن المستنير، المعروف بقطرب، مثلثاته الشهيرة قبل زمن طويل. تقوم دراسته الدلالية اللغوية في «مثلثات قطرب» على جمع المفردات التي تتفق في بنائها الصرفي من حيث ترتيب حروفها، ويكون الاختلاف في حركاتها فقط. مثل: الغَمر، وهو الماء، والغِمر وهو الحقد، والغُمر وهو الرجل الضعيف، الذي لم يجرّب الأمور.
خرج الغُمر، أفيخاي أدرعي، بعقليّة طفل يريد أن يشترك في لعبة الكبار، ليقول لأبي عبيدة الذي أخذ العالم بالغَمر، ووضّح لـ«أبناء الأمة» أنّ الدنيا لا تؤخذ غلابا فحسب، بل غَمراً وطوفاناً، قال الغُمر إنه سيستخدم (يسرق) المثلث الأحمر المقلوب هو أيضاً، اعتباطياً، وبأية طريقة.
سرق الغُمر المثلث إذن، إذ صار الاحتلال يضعه، كيفما اتفق، في فيديوهاته، بعد أن ظهرت في فيديو مخزٍ ضعيف الإنتاج دائرةٌ حمراء على جدار مدرسة في غزة، ودّ الاحتلال لو كانت معادلاً لمثلث المقاومة الأحمر. لكنّ المثلث المتموضع فوق ميركافا، والذي لا يخطئ هدفه، يختلف أخلاقياً وعسكرياً وعلى كل الأصعدة، عن دائرة حمراء متموضعة على جدار مدرسة يحتمي خلفه أطفال ونساء وجرحى.
إذن، مثلث المقاومة الذي يظهر وهو فوق ميركافا أو دبابة أو هدف عسكري، صار أيقونة جماليّة ودلالية بعد السابع من أكتوبر، مقابل الدائرة الحمراء التي ظهرت في فيديو لجيش الاحتلال على حائط مدرسة. هذا الاختلاف الهندسي والدلالي والرمزي أغضب أفيخاي الغُمر، إذ ارتبطت رؤية المثلث الأحمر بعدّة مفاهيم دلالية تقول ما يُراد قوله مباشرةً: المقاومة لا تُهزم، لا تخطئ أهدافها، والاحتلال في ذلّ، يخفي خساراته.
يشير رأس المثلث المقلوب، الحدّي، إلى رؤية يقينيّة ليس فيها أدنى احتمال للخطأ. مرة يظهر المثلث كهدف لسلاح ياسين، ومرة ليد فلسطينيٍ يخرج من غاره، يتمشى، يفجر الدبابة بولّاعة رديئة الصنع، كأنما يُشعل سيجارة، ثم يعود.
الحقل الدلالي للمثلث الذي أخذ يتوسع شيئاً فشيئاً، تحاول دائرة الاحتلال الحمراء أن تواجهه. لكنها، بميوعتها كدائرة، وباعتباطيّة تموضعها، وبشكلها الفج، تحيل إلى اعتباط، لزوجة، إلى ثقب خرّب الشكل الطبيعيّ لشيءٍ ما. كذلك فإنّ حالة التكرار التي تُستنبط منها، توحي أنّ أولئك الذين خلف جدار المدرسة سوف يعودون، بما يشبه العَود الأبديّ. هكذا، يصير الرمز الذي يحاول الاحتلال تسويقه لنفسه، لا يشير إليه، بل إلى الفلسطينيين، وتلك هي مأساته منذ نشأ ككيانٍ مشوَّه، فليس ثمة ما يشير إليه على نحوٍ خاص، بل دائماً يوجد ما يذكّر بأنّ أية إشارة له إنما تقوم على سلبٍ للفلسطينيّ، وإنه إنّما قام على السلب، والسرقة، والإبادة.
هكذا تبدو سرقة الغُمر أدرعي للمثلث معقولة، لكنه لم يسرقه بحجمه الطبيعي كما يظهر في فيديوهات المقاومة، بل كبّره وضخّمه، وهو ما يعيد التوكيد على الذهنيّة الطفوليّة والطفيليّة للغُمر، الذي يريد الظهور فقط، بأية وسيلة، ليخرج من التقزيم الذي حصرته المقاومة فيه منذ السابع من أكتوبر، وقبل ذلك بكثير، وليخرج من حالة الإذلال المحيطة بـ «أقوى جيش في العالم» التي كلما ظهر المثلث أعاد الإشارة إليها. على كل حال، فإنّ للمثلث سيرورة وتحولات في حياة شخصية المقاوم الفلسطيني، بدءاً من العلم الفلسطيني، ثم مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، بين ضلعَي النقّيفة، أو المقلاع، الذي يوضع داخله حجر، ويُرمى على الاحتلال. وهذا المقلاع بدوره أخذ عدة أشكال وظلّ في حالة تطور، وصولاً إلى أوسلو التي أجهضته. كذلك فإنّ المثلث حاضر في الكوفية سواء في زخرفتها أو طيّاتها القطنيّة. إلا أنّ الظهور الأخير له، في كوفيّة الملثّم، إذ تتخذ الكوفية الموضوعة على وجه المقاوم من الأنف حتى الذقن شكل مثلث، أو كرمز لا يخطئ هدفه، ويستحيل أن يخطئ وجهته، هو الظهور الأهم في حياة شخصية المقاوم الفلسطيني.
يعيد المثلث الأحمر إلى الأذهان كل رمزيّات المثلث في الحضارات، لا سيما الرمزية العقائدية الثلاثية: حياة - موت - بعث. فحياة شخصية المقاوم الفلسطيني التي تعود في ظهورها زمنياً إلى الاستعمار البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي، وقد بلغت ذروتها مع الكفاح المسلح، حاولت السلطة الفلسطينية منذ أوسلو أن تجهضها، وأن تدخلها في حالة موات، أو ركود، وحاولت منعها بأية طريقة ممكنة. ما حدث في السابع من أكتوبر هو بعث الروح في هذه الشخصية، أي إحياؤها، استنهاضها، ومنحها نفس جديد، على الرغم من السلطة التي هي اليوم بالنسبة للفلسطيني موته وموت قضيته، وقتل فاعليته.
إنّ المثلث الأحمر المقلوب، أيضاً، هو رمز الطوفان الذي أُعلن عنه في السابع من أكتوبر. إذ ينوب المثلث المقلوب، كرمز، سواء في الكيمياء أو في الحضارات القديمة كلها، عن الماء. هذه الإحالات لمثلث المقاومة، وارتباطها الراسخ مع رمزيات المثلث التي كانت قبل آلاف السنين، تؤكد أنّ الشخصية الفلسطينية تستطيع استرجاع رموز نشأت منذ نشأ الفكر الإنساني، وتعيد استخدامها، وتجعل هذه الرموز تحيل إليها، دون تدخل ودون نطق عنها. الرمز يتحدث عن نفسه، ويرتبط بالحدث الواقع الآن وهنا: قيل قبل عدة آلاف من السنين إن المثلث المقلوب يرمز إلى الماء، أُعلن في السابع من أكتوبر عن طوفان الأقصى، صار المثلث المقلوب أيقونته ورمزه، بلا أي تدخل. بانسياق طبيعي يتبع الرمز الحدث، ويرتبط فيه، كأنّ موقعه في الأصل هنا، وكأنّ كل ما قيل عنه قبل عشرات القرون إنما كان لشرح موقعه الآن وهنا.
أما استخدام الغُمر أدرعي للمثلث، بتضخيمه كي يحتل الصورة الكاملة، وبطفيليته، وبالدرجة الأولى بسرقته كأيقونة للمقاومة، يؤكد أيضاً أنه (أي أدرعي، والاحتلال الذي يمثله) خارج عن السياق الطبيعي، خارج عن التاريخ، هُلام، شكلٌ شاذ بين أشكال العالم، مُستحدَث، مشوَّه، لا يعرف نسق الأشياء، ولا يعرف كيف يصنع رمزه الخاص فيسرق رمز غيره. هذا ما يعيد التوكيد على كيف قام الاحتلال في الأصل، وكيف يتلخص «لا تاريخه» الساذج.

فنٌّ جديد للحرب: «المسافة صفر، ولعت»
كتب سون تزو عند نهاية الفصل السابع من كتابه «فن الحرب» بعض الملاحق والملاحظات، جاء ضمنها: «في ميدان المعركة لا تذهب الكلمة المنطوقة بعيداً بما يكفي». «تصعب رؤية الأهداف التقليدية بوضوحٍ كاف». أظهرت فيديوهات المقاومة واحداً من المقاتلين يحمل «آر بي جي»، يسير نحو دبابة، يُطلق عليها، يصيبها، فتشتعل. يركض ويقفز بعدها، بصندل وتيشيرت وبنطالٍ عادي، وهو يصرخ: «ولَّعَت». كيف لا تذهب الكلمة المنطوقة في ميدان المعركة بعيداً بما يكفي إذن؟ وما الذي يمكن أن نراه في صورة طيفية للصوت الصارخ فرحاً: «ولَّعَت»؟ ما هو التمثيل المرئي له؟
قيل إنّ النطق بالنسبة لأعضاء الجهاز النطقي عند الإنسان «التجويف الفمي والأنفي، والحلق، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والرئتين» وظيفة ثانوية، بعد وظائفها الرئيسية. إلا أنّ النطق هنا، وفي هذه الحالة، يصير أوّل الوظائف. ويصير الصوتُ الإنساني صوتَ العالم. صوتُ المُقاتِل هو الصوت الإنسانيّ، الطبيعيّ، بحساسيته وانفعالاته ووظائف اتّصاله. «ولَّعَت» هنا، تقريرٌ قصير جداً، مفاده أنّ دبابةً كان مَن فيها يريدون إبادتنا، لم يعد لهم وجود. تقريرٌ بالنجاة، وبلذّة النصر. الذبذبات التي في الصوت، والرنّة الخفيفة، والحماسة، إشاراتٌ إلى أنّ الصوت إنسانيٌّ محض، خلاف صوت الدبّابة، الميركافا، فصوتها صوتُ تدمير، إبادة، وإلغاء الحق بالوجود. صوتٌ صناعي، ماليّ، صوتٌ كلَّف 15 مليون دولار، أزالته قذيفة محليّة، بعناء صوتٍ يخرج من حنجرة إنسانٍ منتصر. الصوت هنا هو انتصارٌ للإنسان، ولحقّه في الحياة.
من أيام قليلة، مجدداً، نشرت المقاومة مقطعاً جديداً لمقاتل آخر، فعل الشيء نفسه، فجّر دبابة، وقال: «أقسم بالله ولَّعَت». ثم أضاف: «الحمد لله وَلَّعَت، الحمد لله وَلَّعَت». والقَسَم لفظ لإثبات حقيقة، وأسلوب القَسَم في اللغة من المؤكدات المشهورة، التي تمكّن الشيء في النفس وتقويه. وهو لإزالة الشكوك، وإحباط الشبهات، وإقامة الحجة، وتوكيد الأخبار، لتطمئن نفس المخاطب إلى الخبر.
يصبح القَسَم هنا توكيداً مرّتين: «أقسم بالله وَلَّعَت» هذه المرة، والمرة السابقة أيضاً. برنّة الصوت نفسها، والحماسة، والذبذبات، يُلغي الصوتُ الإنسانيّ صوتَ القتل، ويصير، من جديد، صوتَ العالم. هنا، تذهب الكلمة المنطوقة في ميدان المعركة بعيداً، بما يكفي، لأنها قيلت في المسافة صفر.
يقول الخبراء العسكريون إن القتال من المسافة صفر هو الذي يدور في مسافة لا تتجاوز 150 متراً. لكنّ مقاتلي المقاومة كانوا يلمسون الميركافا بأيديهم، أي أنّ المسافة صفر كقول، هي مجسدة حرفياً على الأرض، هي الموت المُحقَّق. تُستعاد هنا مفردات من معجم المقاومة، مثل «الفدائي»، المكتوبة على العبوة التي يحملها المقاتل بيده ويفجّر الدبابة من خلالها. ترتبط المفردة بعبارة أخرى هي: «لا يُرجى الرجوع منها». ما يعني أنّ الذهاب إلى تلك «المسافة» هو موتٌ متحقق، لكنّ الذاهب إليها يرجع، يقفز، ويصرخ: «وَلَّعَت»، ويؤكّد بعده واحدٌ آخر: «أقسم بالله وَلَّعَت». ليس ثمة داعٍ هنا للحديث عن «الميركافا»، دبابة القرن الـ21 بالنسبة لإسرائيل، أو ناقلة الجنود المدرّعة: «النمر»، اللتين تدمرتا بـ «الياسين 105»، وبيد مقاتل.
تصبح المسافة صفر هنا «الرجوع من الموت» وليس الذهاب إليه. وتؤكد، مثلها مثل الصوت، أنها انتصارٌ إنسانيّ، انتصارٌ لوجود الإنسان في «مكانه» و«مسافته»، وما يودّ «نطقه» في هذه المسافة. تصبح «المسافة صفر» شيئاً إعجازياً، لا يمكن تحقيقه نظرياً، لكنه تحقّق، شيئاً فوق الطاقات والإمكانات البشريّة، لكنه وجد طريقه، بشكلٍ ما، إلى هناك. هذا الإعجاز، بوصفه مستحيلاً، أي الرجوع من موتٍ مُحقَّق، بقفزة وصرخة، لا يمكن التعبير عنه إلا بالقسم الذي يزيل الشكوك ويحبط الشبهات ويؤكد الأخبار: «أقسم بالله أنه رجع بعدما وَلَّعَت».
تبدو شخصية المقاوم الفلسطيني التي برزت في السابع من أكتوبر، إذن، لا حصيلة التطورات الكثيرة التي طرأت منذ بداية الكفاح المسلح، بل جمعٌ لكل هذه التطورات، واستنهاضها في شخصيةٍ واحدة، بمفرداتها كلها، وباستحداثٍ لرموزها، وببعث ذلك الحلم العتيق الذي أجهضته أوسلو: حلم التحرير.
هذه المرة، انتقل الاشتباك إلى ساحةٍ أخرى لم تولَّ أهمية كبرى في بدايات الكفاح: الصحافة. إلّا أنّ المفردات الصحفية لم تبقى في حدود الصحافة، أي في حدود المهنة، بل انتقلت، بسبب استهداف الاحتلال للصحافيين وأسرهم، إلى معجم المقاومة نفسه، وإلى المعجم الإنساني عامةً، بحسرته وأمله.

«معلِش»
تبدو «معلش» ككلمة منطوقة، حين الاستماع إليها صوتياً، كلمة طبيعية، تُقال في سياقٍ طبيعيّ. لكنّ معرفة ظرف القول، وكيفية النطق، تضعها في أعلى المعجم، وتصبح مفردة مثل «الصمود» الراسخ كالوجود الفلسطيني بذاته ولذاته.
قيلت «معلِش» على لسان إنسان وصله للتو خبر استشهاد زوجته وأولاده وحفيده وعدد من أفراد عائلته الكبيرة. ذهب إلى دفن أسرته في الظهر، وعاد إلى المساء أمام الكاميرا يغطّي مجازر الإبادة التي يرتكبها الاحتلال في غزة. تنقسم «معلِش» كما يوحي نطقها إلى مقطعين صوتين: «مع» «ليش». بكلماتٍ أخرى تصبح: «مع» «لماذا». ليست إذعاناً يائساً، ولا استسلاماً نهائياً، ولا مواساة محضة للذات، هي شيءٌ من هذا كلّه، ومثل القَسَم: تمكّن الشيء في النفس وتقويه. إلا أنها في المطاف الأول احتفاظٌ بالحقّ في السؤال: لماذا؟
تشبه اللماذا التي وضعها حسن سامي يوسف في نهاية روايته، «الفلسطيني»: «وبعد صمت طويل سأل عيسى أباه، كعادته، فجأة: أبي، قل لي... لماذا نحن فلسطينيون يا أبي؟ فأفاق الأب وقال بصوته الناعس: إنها مشيئة الله يا بني.. نم يا صغيري... نم». لكنّ الابن الذي كان يمكن أن يسأل أباه السؤال، قد قتله الاحتلال في مجزرة، فما الذي يبقى؟ أن يسأل الأب نفسه السؤال. تنقضّ «معلش» على القلب، صوتاً وكلمة. ليس من الصعوبة معرفة أنّ الرجل الذي قالها، فيه من إعجاز «المسافة صفر» ما فيه، وله من الإمكانات فوق البشرية ما له.
سوف يُصاب بعد ذلك بشظايا في جسده، ويستشهد بعض رفاقه أمام عينيه، وما إن يتعافى ولو بنسبة 1٪، سوف يرجع إلى «مسافته»، يغطّي المجزرة. إلّا أنّ المجزرة أصابته هو، على نحوٍ شخصي، مثلما أصابت أبناء بلده. فما الذي يبقى؟ تلك اللماذا. لا: «لماذا نحن فلسطينيون يا أبي؟»، بل: «لماذا نحن فلسطينيون يا ولدي؟». وسوف ينظر إلى مكانٍ ما لأنه يعرف أنّ أبناءه يراقبونه، كما يقول. ثم سوف يعانق وائل الدحدوح طفلة يواسيها، ويطبطب على أكتاف الغزيين، ويقول: «يوماً ما ستنتهي الحرب وسنعود لديارنا نعمرها من جديد».
ها هنا، تنكشف الإجابة عن اللماذا، هي نفسها الذي وضعها غسان كنفاني في فضول طفل أم قدر رجل: «أأنا فلسطينيٌّ أيضاً؟ وتستولده «نعمٌ» جارحة، وتولد الأرض القديمة داخل إنسانها الجديد». وتستولد «النعم» معها شخصية جمعت تطورات عقود من الكفاح، وبعثتها في السابع من أكتوبر، وبعثت معها لا «النعم» الجارحة، إنما حلم التحرير.
منذ وقت طويل لم يعد خط الزمن الفلسطيني يشمل العنصر الثالث والأهم: «المستقبل»، بل انحصر في جزءيه الأولين: الماضي والحاضر. مع السابع من أكتوبر، سوف ينزاح الماضي إلى وراء، يفكّه الغزّي عن الحاضر، ويجعل الحاضر أقرب إلى أمام، المستقبل. مستقبل، مثل القيامة، إعجازيّ، مكلل بآلاف الشهداء، رسموا الطريق، ووضعوا الخطى على بوابته.